نقاش على هامش الحرية
“عمي إذا الحرية بدها تشردني، هي ما بقي فيها شي من الحرية، هي صارت ذل وتكبيل”
لا زالت تلك الجملة تغزل في رأسي، مذ سمعتها من صديقي الرجل الخمسيني الذي أحب زيارته من حين لآخر في مشغله المتواضع، حيث يعمل في مهنة التنجيد. ذاك الرجل الذي طالما سمعت منه كلماتٍ ترفض القهر والذل وترفض ممارسات النظام الحاكم في البلاد ولا يرى فيه سوى نظام عصابة للسرقة والقمع وكم الأفواه. لكن ما قاله اليوم بعد أن حدثته عن المظاهرات التي خرجت في السويداء كان مختلفاً، فأثار رغبتي في الكتابة عن رأيه والذي أعتقد أنه يمثل رأي الكثيرين مثله.
لم يكن أبو هاني يتوقف عن العمل حين أزوره بل يكمل عمله بالتوازي مع سرده للكلام، يصمت أحياناً ويتوقف ثم يدلو ببضع كلماتٍ ويتابع عمله، لتشعر وكأن عمله فاصل للتفكير بين جملةٍ وأخرى أو كأنه فسحة للتأمل فيما قاله، ليغدو تناوب العمل والكلام كعرضٍ مسرحي تتخلله الموسيقى التصويرية وهي صوت آلة التنجيد هنا.
كان يتحدث عن أبيه الذي رباه على الكسب الحلال والكدح في العمل كطريقٍ للعيش الكريم والمستقل، كان يقول أن والده لم يرد له أن يعمل في وظائف الدولة التي يرى فيها قيداً للإنسان بسلوكه وتوجهاته، حيث يتم فرض رأي السلطة وتوجهها عليه والخروج في مسيراتٍ تؤيد كل ما تقول تحت التهديد بالفصل أو النقل بعيداً، كان والده يرى الاستقلال في العمل منطلقاً للاستقلال في الشخصية وخياراتها.
هكذا تربى على تعلم مهنة يعيش من خلالها بكرامة، فامتهن التنجيد وصار له مشغلاً يعمل فيه وتخرج منه العديد من العمال وأصحاب الخبرة من خلال عملهم معه. كان يرى في الوظيفة قيداً كوالده، وأخبرني ذات مرة عن ابن عمه الموظف الذي نقلوه تعسفياً بعيداً عن محافظته فقط لأنه خالف رأي مديره في مؤسسة المياه الذي كان يتحين أصغر فرصة للسرقة من خلال التلاعب بالفواتير واختلاق أعمالٍ وهمية. فيضيف أيضاً: “عمي هدول أوبة حرمية، وبوظفوا مسؤولين حرمية متلهن، وما بتقدر توقف بوجهن، شغلتهن يسرقوا البلد ويسرقوا حياتنا وخيراتنا، واللي بيحكي مصيرو الطرد والنفي أو الاعتقال”.
كان يتحدث دوماً عن مساوئ النظام وكيف أنه لا يمكن للبلاد الازدهار والعيش بكرامة طالما هذا النظام موجود. لم يكن لديه أدنى شك بضرورة ذهاب هذا النظام فهو الشر الأكبر الذي ينهب البلاد وخيراتها برأيه ويفرق بين أبنائها، ويهجِّر خيرتهم ويرفع من شأن أسفلهم ويعطيهم المناصب والامتيازات، ويهمل الناس وأعمالهم فلا يعنيه إقامة مشروع صناعي مفيد أو دعم الفلاحين بتسويق منتجاتهم أو ري محاصيلهم تاركاً إياهم لتقلبات المناخ وشح الأمطار وكأننا في العصور الوسطى، مكتفين بمراكمة الثروات واستثمارها في مشاريع سياحية غالباً ما تكون على حساب الفقراء ومساكنهم.
وها أنا اليوم في زيارته بعدما شاهدت مظاهرة في قلب السويداء تطالب باسقاط النظام وخروج العائلة الناهبة من البلاد، جئت إليه متحمساً لأتبادل معه أطراف الحديث وأسمع رأيه بتلك المظاهرة التي سيفرح بها بلا ريب، كيف لا وهي التي تطالب بما يجوب في صدره ويختلج أنفاسه.
لكنني صدمت حين شاهدت ردة فعله الباردة وغير المكترثة بدايةً، وصولاً إلى عدم رؤيته للتغيير من خلالها. فبعد أن أفرغت مافي جعبتي من كلام يصف المظاهرة وحماستها وأملي منها، أكمل ما بيديه من عمل كعادته حين يريد التفكير و من ثم استدار نحوي قائلاً: “إي وبعدين؟”
صمتت أمام كلامه قليلاً ثم أضفت: “يعني شوي شوي بتكبر المظاهرات وممكن تمتد لباقي المحافظات وتعمل تغيير بالواقع الراكد”. فنظر إلي حينها وقال: “عمي، شعار إسقاط النظام دمر مدن، وما طلع منو غير مدن مدمرة، فإنت ما رح تحصل غير ع مدينة مدمرة جديدة وبس”
بعد هذه الكلمات عاد إلى عمله لأشرد أنا مع صوت آلته في كلماته التي ذكرها، لأفكر قليلاً فيها وأقلبها في رأسي، هل معه حق يا ترى؟ لكن لو قامت جميع المدن سيتغير الواقع فعلاً، ولن يستفرد النظام بمدينةٍ لوحدها، فسألته عن ذلك، وهنا أطفأ آلته وحدق بي بجديته المعتادة قائلاً:
“انت تواجه قوى عالمية وليس النظام وحده، ولو قامت جميع المدن فلن يتغير شيء سوى زيادة الدماء، لأننا نواجه نظاماً دموياً لا ينكفئ عن فعل شيء، حتى لو تظاهر الملايين في دمشق العاصمة لرماهم بالبراميل واتهمهم أنفسهم بذلك، فما الذي تكون فعلته أنت سوى أنك رميت بالناس في التهلكة وشردتهم، حين تواجه شخصاً شاذاً عليك انت أن تكون الواعي ولا تنتظر منه أن يتصرف بوعي أو ضمير ولا تنتظر من العالم أن يقف إلى جانبك فقط لأنك مظلوم، العالم يقف مع مصلحته وقد يرمي لك ببعض الأطعمة ليعوض عن إحساسه بالذنب، وما حصل مع الفلسطنيين خير مثال على ذلك”
عاد إلى عمله مجدداً لكنه توقف فجأة وأضاف: “أنا لا أريد أن أتشرد، سيأتي التغيير يوماً ما لا محالة، لكن الطريق التي سارت بها البلاد بعد عام 2011 لم تثمر ولم يعد يثمر تكرارها، وأنا لا أريد أن أتشرد أو أهاجر، هل تفهم لا أريد أن أتشرد، قد يحصل المتحمسون على لجوء مبكر في بلدٍ مريح وأتشرد أنا بعد هذا العمر ويتدمر رزقي وعملي وحياتي ومن دون مقابل، ففي التشرد ذل ومهانة أكثر من وضعنا الحالي”
“عمي إذا الحرية بدها تشردني، هي ما بقي فيها شي من الحرية، هي صارت ذل وتكبيل”
توقف هنا عن الكلام واستدار إلى عمله وبدأ يكمله بكل هدوء وتركيز وكأنه أنهى ما بجعبته بتلك الجملة الأخيرة التي ختم بها رأيه، واستدرت أنا لنفسي وللتفكير في كلامه، وأنا أدرك أن هذا الكلام يمثل رأي الكثيرين ممن يشبهون أبو هاني، وهو من ناحية أخرى قارئ دقيق لآراء وأوضاع من حوله وما يريدونه وما يحلمون به وسبل تحقيقه بعيداً عن أية تحزبات واصطفافات.
نعم قد يكون أبا هاني على حق، فما معنى أن تدفع الناس إلى المغامرة بحياتهم وأمنهم ورزقهم وأنت واثق بأن ردة فعل النظام ستدمرهم وتشردهم، ثم يستثمر البعض ذلك الدمار في استجلاب العطف عليهم والتأكيد على وحشية النظام، هل من المنطق أن تحول الناس إلى مشردين وتشحذ عليهم بعدما كانوا يعملون ويكدون لتوفير استقرار حياتهم واستمرارها بشكل طبيعي، وهل ما حصل في سوريا منذ العام 2011 يشكل مثالاً ناجحاً كي يحتذى، بالفعل معه حق فقد تشرد الملايين ونجا من تقدمهم في البداية بلجوئه إلى أوروبا واستكماله لعمله من هناك، في حين تشردوا هم في المخيمات ومآسيها، ليعود بعض النشطاء ويكمل العمل على مساعدتهم عبر إحدى المنظمات التي شكلوها كغريبٍ عنهم وبراتب يجعله متمايز عنهم، وكأنه انفصل عنهم مرتين، لماذا نصر على الإملاء على الناس وما يريدونه، فقد يكون ما يطلبه الناس ويحتاجه مغاير لما نعتقد، وقد يحتاج إلى برامج عمل سياسية واقتصادية طويلة الأمد تحقق ما يريدونه بالتدريج ودون أن تدفعهم للمغامرة بحياتهم ورزقهم.
هكذا خرجت من مشغل أبو هاني وأنا على ثقة بأن ما لا ينطلق من الناس لا يأتي بمصلحتهم، وأنهم يدركون بفطرتهم ما يحتاجونه وما هي أولوياتهم، وأن مجرد محاولتنا كسر هذه الدائرة سيأتي بالخراب عليهم. هكذا خرجت وشعرت بالارتياح لما وصلت إليه وكأنني كنت أقول بداخلي وأنا أصل إلى هذه النتيجة: “شكرا أبو هاني”.