إمرأتان في الرمال

كان الجو لا يزال ماطرا حين طلبت مني امي الذهاب نحو خيمة الاسعاف لأحضر لها حقنة انسولين بعدما ضاع كيس دوائها بعد العاصفة التي هبت على المخيم ليلة الأمس
الخيمة المنصوبة على عجل قد اقتلعت من جذورها، ملابسنا المهترئة مع كيس داء أمي و سجادة صلاتها تناثرت و طارت أيضا مع الأغطية لتسقط على خيمة إم سعيد مع أبنائها الثلاثة الذين هربوا من الرقة بعد دخول قوات التحالف المدينة إثر القصف العنيف عليها الذي استمر خمسة أيام على اثره اختفت القوات التابعة لتنظيم داعش من المدينة و انسحبت نحو الحدود العراقية السورية كما أشيع
ذهبت ببطء نحو خيمة الأسعاف المنصوبة في نهاية الطريق الرملي و أنا أسمع الشتائم التي تكيلها أم سعيد على حظها الخرا و أصوات بقية النساء الذين يحاولن تهدئتها
في الحقيقة أكثر من عشرة خيم تطايرت وكانت خيمة ام سعيد من بينها الأقل تضررا، لكن ربما وحدها هذه المرأة تمتلك رغبة بالشكوى يعادل جميع نساء المخيم، حتى عندما ذهبت النساء للبحث عن أشيائها المبعثرة التي تطايرت في الوادي بقيت جالسة في مكانه تندب حظها
تابعت طريقي نحو أول المخيم وأنا أفكر بهذه المرأة التي فقدت ثلاثة من أبنائها المقاتلين مع داعش كما كان يشاع عنها، كانت امرأة نصف مشلولة ومع ذلك كانت تحيط بوليدها وبنتها بحنان لم أرى مثله من قبل، تطرد عنهم الغبار بمنديلها و كثيرا ما كانت أمي عند دخولها خيمتها تجدها نائمة وهي تمسك المقشة التي كانت تحرك بها الهواء فوق رؤوسهم في الصيف الفائت لتبريد حرارة الغرفة،
أمي التي تنتمي لعشيرة الشعيطات كانت في قريتها الكشكية الواقعة على نهر الفرات في منتصف الطريق بين البوكمال ودير الزورعندما بدأ القتال بين داعش وعشيرة الشعيطات في صيف عام 2014. واستطاع مقاتلو العشيرة دحر التنظيم إلى الشمال، وسيطروا على بلدتي مركدة والشدادي في الريف الشمالي الشرقي لدير الزور عندها طلب التنظيم هدنة بعد مقتل عشرات العناصر من الجانبين، وهو ما وافقت عليه العشيرة مقابل تسليم الأسرى وتخلي الشعيطات عن السلاح الثقيل. لكن الهدوء لم يستمر طويلاً بعد أن سيطر التنظيم على مدينة الموصل في العراق، فاستقدم الآليات العسكرية والذخائر وعزز وجوده في المنطقة
وفي خرق للهدنة قامت داعش باختطاف احد الشباب في ليلة زفافه وقتله أمام أهله مما جعل عشيرة الشعيطات تعاود القتال ضد التنظيم و استطاع شباب العشيرة الدفاع عن مناطقهم لكن ذخائرهم أخذت بالنفاذ وفي الوقت نفسه نصبت داعش المدافع على المرتفعات وبدأت تقصف بعشوائية و أرسلت العشيرة صيحات استغاثة للجميع لكن لم يحرك أحد ساكنا
في إثر ذلك ارتكب تنظيم داعش إحدى أكثر المجازر وحشية في سورية، كان ضحيتها عشيرة الشعيطات كاملة في محافظة دير الزور، حيث أصدر التنظيم حكماً بالقتل على كل من يتجاوز عمره 14 عاماً من أبناء العشيرة مع مصادرة أراضيهم وبيوتهم وسبي نسائهم
كانت أمي حاضرة كل تلك الأحداث ولهذا كانت تكره هذه المرأة كلما تكلمت عن أبنائها الشهداء كما تسميهم، كانت أمي تبكي أهلها الذين شاهدتهم يقتلون ويذبحون علنا و الآن تشعر بالغيط والحقد على تلك المرأة التي تبكي أبناءها الشهداء
كانت الأثنتان تبكيان أهلا و أبناء قتلوا في الاتجاه المعاكس
وصلت خيمة الاسعاف المنصوبة قرب احد المباني الاسمنتية القليلة في المكان، كان الممرضان يجلسان على كرسيان يشربان عصيرا غازيا عندما سألتهم عن حاجتي للأنسولين
أجاب أحد الرجلين بلطف وبلهجة قريبة من لهجات اهل الشام:
_يا ابني وزعنا كل اللي عندنا، ولازم يكون مكفيكم لاسبوع متل ما مكتوب على الورق عندنا، شو عملتوا بالانسولين اللي اخدتوه مبارح؟
_أكلناه شو عملنا فيه يعني ما شفت هاي الريح طيرت الخيم كلها و كل أكلنا وغراضنا و دوا أمي طار مع الرمل
_لا حول ولا قوة الا بالله طيب روحوا دوروا عليه ما بقي عندنا دوا
_دورنا وما لقينا شو نعمل
هنا انتفض الرجل الأخر وصرخ بصوت عالي و إحنا شو نعمل بحالنا، احنا عمي ما بنصنع دوا هون روحوا لاقوا دواكم و انتبهوا لغراضكم
لم أجد ما أفعله أو أقوله هنا في الحقيقة كنت أفكر بأن بإمكاننا العثور على كيس الدواء في هذه الرمال وفي نفس الوقت لم أفكر بأن هؤلاء الأشخاص يكذبون
عدت أدراجي نحو خيمتنا لأجد إم سعيد تعود منهكة من الطريق الرملي و تجلس على كومة من الأغطية بالقرب من أمي كانت غاضبة وتصرخ
فكرت في نفسي ليس هذا الوقت الوقت المناسب للشجار بينهما، لكن امي كانت مستسلمة لصراخها بل وتحاول هذه المرة ارضائها، أمي كانت تشعر بالغضب والقهر كلما وصفت أم سعيد أبناءها بالشهداء، و لكن هذه المرة يبدو بأنها استسلمت كانت أم سعيد تبكي و أمي تربت على رأسها وتضمها
كانت أم سعيد تصرخ نحن لم نكن ضد احد أولادي كانوا ضد الجوع والفقر ولم يهمهم مع من كانوا يقاتلون كانوا يحاولون تأمين طعام أخوتهم كانوا ساذجين ولم يكونوا مقتنعين بأحد لا داعش ولا نصرة ولا نظام ولا جيش حر، ولادي أول واحد كان رح يحكيلهم أنه في أكل وبيت وراتب رح يروحوا معه
إحنا فقرا يا عالم حاجة تظلمونا
كل الدنيا عم تظلمنا من لما انخلقنا
اصطنعت الغضب محاولا تغيير الحديث و تخفيف حدة صراخ إم سعيد وانا أقول لم أجد عندهم أنسولين يجب البحث عن كيس دواك
لكن إم سعيد اخذت تصرخ من جديد
كمان هدول ولاد الشرموطة ما بدهم يرحمونا وين بدنا نلاقيه رحت دورت عليه نص ساعة برجلي المكسّرين وما لقيته واذا واقع بالوادي مين بدو ينزل يجيبه ونهضت بجسدها المترهل تمشي متثاقلة بقدمين لا تقويان على حملها متجهة نحو الخيمة الطبية
سالت أمي انت رحت دورتي وما لقيتيه!!
تفاجأت عندما علمت أن أم سعيد هي من ذهبت لتبحث عنه، لم أفهم أبدا مشاعر البشر تجاه بعضها في هذه الحرب ولا حتى فهمت البشر ذاتهم
كنت دائما أنظر بعدم الرضا تجاه هذه المراة المتذمرة دائما والأنانية برأيي الذي غالبا ما كانت عدوتها التي هي أمي تعارضه وتقول بأن قلبها طيب رغم صراخها العالي وشتائمها المقذعة
لحقت بها نحو الرجلين
وجدتها تخرج من الخيمة في طريق عودتها تحمل كيسا عليه شعار الامم المتحدة،
شو هاد يا خالتي سألتها
هدول ولاد الشرموطة ما بيجوا غير بالعين الحمرا أجابتني
أعطت أم سعيد كيس الدواء لأمي و ذهبت لاصلاح خيمتها فيما أخذت أمي تضع البطانيات على أبناء أم سعيد النائمين بالقرب من الخيمة
هذه الحرب التي رغم كل شيء لم تسلبنا كل مشاعرنا تجاه بعض