ساعة انهدم الجدار

«الأرض ترتجّ، كأن زلزالاً يموج، الصراخ والأنين يعلو بين الحارات والأزقة.. سيارات “السوزوكي” هي سيارات الإسعاف، وفريقها من شباب البلدة المتطوعين لإغاثة أهاليهم وجيرانهم.. ومنهم من قدم روحه فداءً لإنقاذ الآخرين.. مع كل قذيفة دبابة أو مدفعية أو صاروخ جويّ أو برميل متفجّر، تنهار بناية، أو يودّع بيتٌ ساكنيه».
دموع “عُلا” تتسابق كقطرات المطر تروي خدودها، وهي تروي لي مأساتها ومأساة بلدتها “كفر بطنا”، البلدة الريفية في “ريف دمشق” الشرقي، حين اجتاحتها جحافل “حماة الديار” مطلع آذار عام 2018.
“علا”، جارتي الجديدة التي نزحت من بيتها، هاربة من جحيم النار والبارود، حطّت بها الرحال في السويداء مع أخيها وخالها وعائلته.. روت لي ما بدا أكذوبة لا يصدّقها العقل، غير أنّ من رأى ليس كمن سمع…
«كنت قد انقطعت عن متابعة الدراسة في الجامعة، بسبب إغلاق المنطقة وحصارها، واعتبارها خارجة على النظام، أو مستقلة عنه. كنا نعيش حصاراً وظروفاً صعبة للغاية، امتدت لسنوات، ونعتمد في معيشتنا على خيرات الأرض، وما يصلنا بين الحين والحين من مساعدات إنسانية خارجية بشكلٍ أو بآخر. تعمّد النظام قطع الكهرباء والماء والمدد التمويني، وكل ما يمكّن البلدة من الصمود، بهدف دفع الأهالي للاستسلام، غير أن البلدة صمدت بشيبها وشبابها ونسائها وأطفالها، رغم وجود الكثيرين من أصحاب النفوس الضعيفة، الذين يحتكرون المساعدات والمدد، ويتحكّمون بالموارد التموينية والمحروقات، ويبتزون من بقي لديه مالاً، حتى الماء عزّ وجوده وأصبح مصدر استرزاق.
تأقلمنا مع الواقع المفروض وأملنا كان ألا يطول الحصار. كنا نتابع أخبار المعارك على مختلف الجبهات، ورغم التراجع الكبير للثورة في معظم مناطق القطر، كنا قد عقدنا العزم ألا نستسلم ونسلّم أرواحنا للجلّاد، على أمل ضئيل بأن تهبّ باقي المناطق، وتنقلب معادلة الثورة.
حين وصلتنا الأنباء عن هجوم كبير يحضّره جيش النظام مدعوماً بالطيران الروسي والميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية وووو، قررت قيادات الثوار والتنظيمات المسلحة في منطقتنا، أن تخوض الحرب حتى آخر طلقة، وقرروا التفاوض مع النظام على إخراج النساء والأطفال والشيوخ، لعلمهم أن المنطقة ستكون مسرحاً للقصف المدفعيّ، وتحت رحمة الدبابات وراجمات الصواريخ، والقصف الجوي من طيران النظام والطيران الروسي الذي يجرّب أحدث أسلحته فينا.
أعطى النظام مهلة 48 ساعة لخروج المدنيين من البلدة، وابتدأت حركة النزوح المذلّة. لكنّ القصف ابتدأ منذ صبيحة يوم الهدنة، وضاعف الطيران هجماته في اليوم الثاني، رغم كثافة حركة النزوح.
وتفاوتت الأرقام المعلنة بشأن أعداد المدنيين الخارجين من الغوطة الشرقية، بين ساعة وأخرى، تعلن الأمم المتحدة أن ما بين 12 و16 ألف شخص غادروا الغوطة الشرقية في اليومين الماضيين، في حين أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بمغادرة حوالي 20 ألف مدني يوم الخميس أول أيام الهدنة، معظمهم من بلدتي “سقبا” و”كفر بطنا”. ورغم أن المرصد أشار إلى أن “غارات روسية كثيفة” استهدفت بلدتي “كفر بطنا” و”سقبا”، وتسببت بمقتل 80 مدنياً على الأقل، بينهم 13 طفلاً قتلوا وأصيب عشرات آخرون، إلا أن الحقيقة كانت أفظع من ذلك بكثير.. عائلات بأكملها دُفنت تحت ركام بيوتها، وكانت الأشلاء تملأ طرقات البلدة، والإصابات بالآلاف.
لكن أعلن فيما بعد، أن الهجمات على الغوطة الشرقية انتهت إلى مقتل 1350 مدنياً بينهم 270 طفلاً، ناهيك عن آلاف الإصابات.
المضحك المبكي يا صديقتي، أن وكالة أنباء النظام “سانا” كتبت: لقد لعب الأهالي في بلدة “كفر بطنا”، دوراً مهماً بتحرير بلدتهم، حيث قاموا بمساندة الجيش العربي السوري عبر طرد الإرهابيين منها الذين اتخذوهم دروعاً بشرية، ليقوم الجيش على الفور بتأمينهم داخل منازلهم، حيث ما يزال يقطن في البلدة ما يزيد على 12 ألف مواطن.
والمفارقة العجيبة أن تعداد سكان “كفر بطنا” وحدها كان ينوف عن 140 ألفاً.
كذلك قرى وبلدات “حزة” و”سقبا” و”حمورية” و”جسرين” و”عين ترما” و”زملكا”، طالها الدمار الكبير كالأضرار التي لحقت ببلدة “كفر بطنا”، وهُجّر معظم سكانها، عدا عمّن قضى تحت أنقاض البيوت المدمّرة».
– لكن أين هم أهلك؟ لم أرَ سوى أخيكِ المصاب برجله؟
– «لم نكن نعلم أن الأمور ستسير بهذه السرعة. لم يكن لدينا خيار سوى الهرب. أبي كان يمشي على عكاز، لأنه أصيب برجله قبل عام ونصف، حين كان يساعد على انتشال أفراد عائلة، دكَّ الطيرانُ بيتهم، وأمي كانت مريضة بالربو منذ سنوات.
كانت الفوضى تعم البلدة، والأصوات المختلطة من الصراخ والنواح والاستغاثة لا نستطيع تحديد مكان لها.
سقطت قذيفة بجوار بيتنا ونحن في الطابق الثاني، وهدمت منزل جيراننا على من فيه. شظيّة كبيرة اخترقت النافذة، وأصابت رجل أخي ذي السنوات العشرة وحطمتها. حملته على كتفي ونزلت به مسرعة، لأسبق به أبي وأمي وأختي، لنسقط معاً عند مدخل البيت، وقد صمّت آذاننا القذيفة التالية التي أصابت طابقنا العلوي. لملمت نفسي بعد الصدمة رغم بعض الجروح الطفيفة، ناسية أخي المصاب.
صعدت الدرج ذاهلة. كانت القذيفة قد أصابت جدار غرفة النوم- تتسابق دموع “علا” على خدودها وتقلّدها دموعي- تداعى الجدار مع جزء من السقف على أبي وأمي وأختي الصغيرة ذات الأعوام الخمسة، كأنه الكابوس، رأيت دماءهم تسيل باتجاه العتبة ولا نأمة لهم، والنار أخذت تلتهم الستائر على الجدار الواقف.
أيقظني من كابوسي صراخ أخي في الأسفل، وصوت الطائرة الزاعق فوقي، والانفجارات المتتالية حولنا. لا أدري كيف نزلت، وحملت أخي المصاب وجريتُ به.. جريت أكثر من ثلاثة كيلومترات، ولم أعد أنتبه إلى الدمار والنار وتطاير الركام من حولي، بل لم أعد أشعر بشيء، كأنني أسير في حلم كابوسيّ على غير هدى. حين صحوتُ كنت في مشفى المجتهد، وخالي إلى جانبي، طمأنني عن أخي في الغرفة الثانية، ثم اصطحبنا في اليوم التالي معه إلى هنا».
أهالي الغوطة الشرقية المهجرون من منازلهم، وزعهم جيش النظام على أكثر من عشرة مراكز إيواء متباعدة، في أطراف “دمشق”، ومنع عليهم الخروج أو التحرك خارج حدود المخيمات، حيث تمت مصادرة هوياتهم ووثائقهم الثبوتية منذ وصولهم إليها، تحت مسمى تصحيح الأوضاع، فيما بدأت الأمراض المعدية بالانتشار نتيجة الكثافة المرتفعة وقدوم فصل الصيف، حيث لا تزال الخدمات الطبية قاصرة عن تأمين احتياجاتهم، ولا سيما مع ارتفاع معدل المواليد الجدد.
بالإضافة إلى العنصرية المقيتة التي عانى منها نازحو الغوطة الشرقية من مؤيدي النظام، حيث يمتنعون عن التعامل معهم، ويمنعون وصول أي مركبات تحمل مواد غذائية أو دوائية لهم… فرضوا حصارا إضافياً فرضته المليشيات المؤيدة للنظام، الذين حرّضوا على إبادة كل من تبقى من أهالي الغوطة، باعتبارهم كانوا حاضنة شعبية للثوار والمعارضة على مدى سبع سنوات.
أما الآلاف من سكان الغوطة العالقون داخلها، ورغم تحريرها المزعوم من الإرهاب، وعودة الأمن والأمان إليها، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية وقوات جيش النظام… فقد مُنعوا من مغادرتها أو حتى مغادرة حدود بلداتهم إلى بلدات مجاورة، في الوقت الذي كانت فيه المليشيات الداعمة للنظام تقوم بعمليات سرقة وتعفيش لمنازل المدنيين ومحلاتهم التجارية، كما تقوم بتجريف بساتينهم وحقولهم وتدمير ما تبقى من مزارعهم.
– هل تفكرين بالعودة إلى بيتكم؟
– «كيف لي أن أعود يا صديقتي؟ ممنوع علينا حتى الآن دخول بلدتنا.
حظرُ التجول طوال الليل ولأشهرٍ طويلة، كان شبحاً على أهالي بلدات “كفر بطنا” و”حمورية” و”عربين” و”جسرين” و”زملكا”، بالإضافة إلى “دوما”… وبشارة وفرحاً على عائلات موالية، نزحت من “إدلب” و”حلب”، تم إسكانها تحت جنح الظلام، في منازل تم تهجير أصحابها وحالتها جيدة.
فرع المخابرات الجوية في مدينة “حرستا”، أخذ استراحة من القتال، فتسلّى بحملة مداهمات للمنازل السكنية في “سقبا” و”كفر بطنا”، واعتقل من طالته أيديهم بمن فيهم كبار في السن، “أبو فراس المصري” 56 عاماً و”أبو محمد البشاش” 62 عاماً، وغيرهما الكثيرين، رغم أنهم غير مطلوبين، وأجروا تسوية عقب سيطرة النظام على الغوطة… وأغلق معظم الطرق الفرعية بسواتر ترابية عالية، وأجرى التفييش الأمني لجميع المارة، للبحث عن مطلوبين على قوائمه، كأن اتفاق تسوية أوضاع سكان الغوطة الشرقية لم يكن.
قدمنا- خالي وأنا- طلباً وراء طلب لفرع الأمن، للسماح لنا بالعودة، ولم يأت الرد على أيٍّ منها بعد».