اعتصام مقابل صنم

لقد كُسرَ حاجز الخوف عند السوريين بعد اندلاع الثورة هذا أكيد ، ولكن من جهة أخرى ولأسباب عصية على التفسير زادت الرغبة عند البعض الأخر في تقديم الولاء لهذا النظام المجرم .
قبل الثورة كنت أسأل نفسي دائما :
ما الذي يدفع بعض البشر لكتابة التقارير للجهات الأمنية ! ما الذي يدفعهم على التبجح بحب الرئيس وهم ليسوا مستفيدين بأي شيء ؟
على العكس تماما ، فهم بمعظمهم ينتمون لبيئة فقيرة و هذه الدولة التي يمجدون رئيسها و يهللون له و يمجدونه في مسيراتهم هي ذاتها الدولة التي تحرمهم من أبسط حقوقهم .
أفهم أن يجد السوري نفسه مجبراً على القبول بجميع قرارات وممارسات هذه السلطة التي أوجدت الاستقرار و الأمن بقوة اجهزتها المسلطة على رقاب البشر، و في الوقت نفسه أفهم أننا ندفع ثمن هذا الاستقرار من حقنا في ثروات بلادنا و خبز أطفالنا ولكن ما لم أستطع فهمه أبدا هو وجود هذه الفئة من السوريين الموالين بلا سبب مقنع لهذا النظام المسيطر على كل شيء في سوريا .
قبل اندلاع الثورة اقتصر تأثير هؤلاء البشر على إثبات الولاء للسلطة الحاكمة على الصراخ في مظاهرات التأييد و البصم بالدم في استفتاءات النظام الصورية على من سيحكم سوريا وكأنه كان هناك مجال للاختيار بين اكثر من مرشح ، و إن كان هذا الموالي من طبقة “المثقفين” فيمكنه أن يتخمنا بكتابة الشعر و النثر في مدح شخصية القائد الفذة وكنا ننصت لهم مرغمين على الرغم من كل شيء .
و لكن عشية اندلاع الثورة تغيير كل شيء ، لم نعد نطيق الابتسام في وجوه هؤلاء البشر و من جهة أخرى لقد تغيير الدور الذي يلعبونه في تأييد هذا النظام تماما .
لقد أخذوا في هذا السبيل شكلا أكثر وقاحة متجاوزين كل القيم الانسانية و مستبيحين لكل الأماكن فلم يسلم منهم أي مكان لا في المساجد و لا أماكن العمل و لا حتى في الحدائق العامة .
حتى الجامعات لم تسلم منهم وهذا ظهر جلياً عندما قرر طلاب كلية الطب في جامعة دمشق الاعتصام في الحرم الجامعي في الأول من نسيان في عام الثورة ، حاملين لافتات ضد النظام ومطالبين بالحرية.
يقع مبنى كلية الطب في حي المزة بدمشق في تجمع واحد يسمى بتجمع الأداب و على مقربة منها تقع كلية الصيدلة و تفصلهما حديقة تسمى بحديقة الصيدلة عن تجمع كليات الآداب والصحافة وعلم الاجتماع وفي المدخل يقبع مبنى الاتحاد الوطني لطلبة سوريا ، وعلى مقربة منه تم نصب صنم كبير لحافظ الأسد يظهر فيه واقفا ، يحمل بيده كتابا و كأنه يستعد لإلقاء محاضرة علمية ، هذا المبنى الذي تحول بين ليلة و ضحاها لأحد أفرع الأمن ذات السمعة المرعبة .
في الحقيقة لم يكن النظام بحاجة لتحويل مبنى اتحاد الطلبة ليكون أحد أذرعه الأمنية ، فخلف حرم الجامعة تماما في شارع الكارلتون تمركزت معظم فروع الأمن العسكري و التحقيق و مباني قيادة المخابرات السورية قاطبة .
في يوم الاعتصام ذاك ، في الاول من نيسان كنت جالسة أمام الصنم الكبير ، أستريح من المشي بضع دقائق قبل الوصول لحضور محاضرة في مادة الاعلام المسموع في كلية الصحافة، سمعت من مكاني صوت هدير قادم من حديقة الصيدلة يتعالى الصدى: حرية للأبد، حرية للأبد.. لم أصدق أنني على بعد دقائق من مظاهرة ضد نظام الرعب في وسط العاصمة دمشق ، ومن داخل الصرح العلمي الأقدم فيها “جامعة دمشق”، سمعت صوتاً مطابقاً لهتافات مظاهرات دوما والميدان وحمص وحماه ودرعا التي كنت أراها على التلفاز، أكد لي مرور رجل أمن مسلح راكضاً باتجاه الصوت أنها حقيقة.
طغى جو من الارتباك على الطلاب الجالسين حولي في الحديقة، وفجأة رأيت وليد أحد الطلاب الذين يدرسون معي في قسم الصحافة يقف قربي متوترا وهو يصرخ :
“المندسين رح يخربوا البلد و نحنا قاعدين” و أشار بسبابته باتجاه حديقة الصيدلة ، وليد الذي كان يقطن في أحد الأحياء العشوائية في دمشق ، كنت أراه كل يوم يصعد المكروباص معي صباحا ، كان مفصولا من السنة الثالثة لاستنفاده سنوات الرسوب و لم يكن بوسعه العودة إلى الجامعة لولا مرسوم الترفع الاداري الذي أصدره بشار الأسد ، كنت قد رأيته السنة الماضية حاملا لعشر مواد إضافية و كان موضوعا لسخرية بقية الطلاب ، أصبح همه الشاغل في هذه الأيام إقناع كل الطلاب حوله بأن ما يجري في سوريا هو مؤامرة كونية.
في يوم الاعتصام هذا و بعد أن أبدى وليد قلقه المبالغ به أمامنا ، تركنا وراح ينادي طلاباً لمساندته في الهجوم على الشباب المعتصمين وتفريقهم ، و بالفعل استطاع أن يجمع البعض وذهبوا جميعا نحو مبنى اتحاد الطلبة و من ثم خروجوا مسلحين بالهروات واتجهوا حيث الاعتصام .
لم تطاوعني قدماي للذهاب نحو المعتصمين ، رأيت بأم عيني رجال الأمن يظهرون فجاة و يملؤون الجامعة ، رأيت الطلبة المعتصمين يقتادون نحو مبنى الاتحاد الوطني لطلبة سوريا على مرأى من الطلاب والمدرسين جميعا .
و على مرأى من ذلك الصنم الذي يحمل بيده كتاب أخذوا ينهالون عليهم بالعصي على رؤوسهم و أجسادهم و يشتمونهم بأبشع العبارات، ظننت لوهلة بأن هذا الصنم كان يبتسم و بأنه سيلقي الكتاب من يده و يشارك في هذه الحفلة، حفلة الإهانة الجماعية لبضعة طلاب فكروا بالاعتصام احتجاجا على حصار مدينة درعا، أحد المدرسين في قسم الجغرافيا حاول الفصل بين المعتصمين و بين زملائهم الذين جاؤوا لضربهم فنال نصيبه من الضرب والإهانة .
لم يمض وقت طويل حتى ظهر حشد بشري قادم من السكن الجامعي المقابل لمباني الجامعة، كانوا يتوجهون نحونا و هم يهتفون:
بالروح بالدم نفديك يا بشار
الله سوريا بشار وبس …
كان بعضهم يرقص وبعضهم محمول على الاكتاف، بدأ الطلاب الواقفون على الجنبات خوفا النظر حولهم ، لقد كان الجميع خائفا من العيون التي تراقبهم و ما لبث أن انخرط معظمهم في طقوس المدح و التهليل لقائد الوطن الذي يتعرض لمؤامرة مجموعة من المندسين
استمروا بهتافاتهم وصرخاتهم الهستيرية وتجمعوا في النهاية تحت الصنم ينظرون في عيونه والصنم بدوره كان يراقبهم بصمته الجليدي .
لم تحملني قدماي على الابتعاد بسرعة عن هذه الحفلة التشبيحية،
تراجعت رويدا رويدا وخرجت من بوابة الجامعة الحجرية
في ما بعد تم فصل أغلب الطلاب الذين حاولوا الاعتصام