أن تعيش في الداخل
يسألني الفيسبوك ما الذي تفكر به، حسناً سأقول لك. اليوم صباحاً خرجت من المنزل لأرى جارنا يركّب لمدخل بيته باباً ضخماً من الحديد ليحمي سيارته من السرقة بعد انتشار ظاهرة سرقة السيارات بكثرة، فبدأ يحدثني عن تكلفة ذلك العمل وكيف أخذ هذا العمل المال من أمام أعمال أخرى كانوا يحتاجونها، فبالكاد أقنع زوجته أن باب الحماية اليوم أهم من شراء براد جديد بدل برادهم المعطل، وأنه أهم من شراء سجادة لصالة بيتهم حيث يمشي طفلهم الصغير فيها بكثرة في الشتاء ويجب أن تفرش بالسجاد لحمايته من المشي على البلاط البارد.
أستمع له ولا حول ولا قوة لي في إضافة تعليق أو كلمة تواسيه، فأقف كمستمعة صامتة، مع بعض التعابير المتأثرة في وجهي وحركة يداي دون أن أضيف شيئاً.
أكمل طريقي، لأستقل سيارة أجرة، وهنا يبدأ السائق بالحديث عن انقطاع البنزين وكيف أنه يضطر للوقوف يوماً كاملاً لتعبئة سيارته، ثم يعرج على غلاء أسعار قطع السيارة وغلاء أجرة تصليحها، وكيف أنه تأخر في شراء حقائب مدرسية لأبنائه لأنه صرف المبلغ الذي جمعه لهم على تصليح سيارته، وعليهم أن ينتظروا أياماً أخرى لحين تجميعه لثمنها، في حين أن زوجته تحاول إقناع أبنائها بأن يؤجلوا شراء الحقائب إلى ما بعد شراء الباذنجان من أجل المونة، خاصة وأن موسمه لا يحتمل التأجيل، ليضيف السائق “يعني بدنا نختار، إما حقائب، أو مكدوس وبدون جوز لا تنسي لإنو الجوز لحالو صار بدو قرض”.
أترجل من السيارة وأنا لا أملك قول كلمة للسائق، عجزت أمامه كعجزي أمام جارنا.
أمر من أمام محلات فاخرة للألبسة، أتذكر أن مثل هذه المحلات كان قليلاً في السابق لكنها ازدادت كثيراً وكأنها تتناسب طرداً مع ازدياد الفقر، نعم كلما ازداد الفقراء فقراً ازداد الأغنياء غناً، هو قانون تاريخي منذ القدم.
أصل إلى مقهى صديقي، الذي أقصده لطلبه التحدث معي حول موضوعٍ يخصه، أنظر حولي ريثما ينتهي صديقي من عمله ويتفرغ للجلوس معي، ألحظ في المقهى مجموعة من الشابات والشبان الذين أعرفهم يجلسون مع بعضهم على طاولة واحدة، يعملون في منظمة تخص الإغاثة وتقديم الدعم النفسي، كنت أرقب ما يشربونه، حيث لفت نظري أن مشروباتهم التي طلبوها من النوع غالي الثمن. يأتي صديقي بعد قليل لنبدأ بحديث عام فأسأله عن عمل المقهى إن كان جيداً ويكفيه مصروفه ومصروف أهله، فيجيبني “نعم ورغم الغلاء الجديد، لكن عملي ما زال مستمراً فأنا أغلب زواري من العاملين بالمنظمات غير الحكومية، وهؤلاء رواتبهم عالية، ولا زالو يترددون إلى المقهى”.
ابتسمت قليلاً ونظرت إلى جهة المجموعة التي ذكرتها وتساءلت بداخلي هل يعملون في الإغاثة أم في الاستغاثة.
لم يعد الزمن كما مضى حيث كان الجميع يساهم في التربية، أما اليوم فالجميع يهمه الربح وما عاد بالإمكان السيطرة على أولئك الشبان، وبات الموضوع يعتبر حرية شخصية لا يحق لأحد التدخل فيها.
بدأ صديقي بالحديث عما يريده مني حيث شرح بأنه يعمل على ترجمة كتاب، فهو خريج أدب إنكليزي، لكن عدم توفر عمل ملائم اضطره لإقامة مقهى، فغدا مترجماً ماهراً لوصفات تقديم المشروبات.
في غمرة حديثنا يدخل طلاب مدرسة، يجلسون على طاولة ويطلبون شيئاً ليشربونه، ومن ثم يبدأون بالتدخين، أسأل صديقي: هل تسمحون بدخول القصَّر، فيجيبني وما الذي ينفع عدم إدخالهم، فكل المقاهي مفتوحة أمامهم وأغلبهم يدخنون بعلم أهاليهم، لم يعد الزمن كما مضى حيث كان الجميع يساهم في التربية، أما اليوم فالجميع يهمه الربح وما عاد بالإمكان السيطرة على أولئك الشبان، وبات الموضوع يعتبر حرية شخصية لا يحق لأحد التدخل فيها.
خرجت من المقهى، مررت أمام الفرن حيث دور انتظار الخبز بطول تاريخنا ومليء بالتجاوزات مثله، لأصادف والد صديقي الذي جاء ليقف على الدور أيضاً، أبادله السلام وأسأله عن حاله، فيجيبني بحرقة قلب: “شو بدي أعمل، ولادي الثنين هاجروا، بعد ما فنيت عمري مشانهن، وأنا إتعب وقول بكرا لما يكبروا بيسندوني، بس اللي صار تعِّبت حالي وبدون ما إقدر أمنلهن شي، وبالمقابل بعد تعبي ما لقيتهن جنبي، وهي بدي أوقف عالدور شي ساعتين مع وجع ظهري”
العجز مجدداً يربط لساني، ما الذي يمكن أن تقوله لرجل كبير، كان يحلم أن يرى أبناءه حوله، يكملون ما بدأه لهم، يجلس في داره ويلامس رأس حفيده ويحكي له قصة عن الحياة، فبات عليه أن يتلمس دوره أمام الفرن لتحكي للحياة قصته ومأساته.
أعود إلى صفحتي فيسألني الفيسبوك ما الذي تفكر به، فأجيبه بداخلي حسناً لن أفكر بشيء، لطالما أعيش في غابة ليست بحجم الوطن بل بحجم العالم، وتتطلب مني الحضارة أن أتصرف كدبلوماسي، فلن أفكر بشيء، الصمت وحده جوابي، نعم الصمت إلى حين يمكنني الصراخ بوجه العالم، وأجبره على سماع صوتي كما أريده أنا لا هو.
أغادر والد صديقي، وأنا أتذكر صديقي وابنه، الذي غادر البلاد قبل أشهر إلى لبنان، ومن هناك إلى أربيل، ليخرج عن طريق التهريب إلى إيران ثم تركيا، بطريقة أشبه بالجنون، حيث تحدث لي عن المسافات التي قطعها سيراً على الأقدام فوق الجبال هو ومجموعة معه، أدت إلى وفاة امرأة من بينهم لعدم احتمالها مشقة الطريق وتعبه، فخارت قواها وسقطت دون أن يستطيعوا تقديم شيئٍ لها، ليصلوا بعد طول معاناة إلى تركيا، حيث يقيم إلى اليوم وبلا أي عمل منتظراً الفرصة للولوج إلى أوروبا هدف رحلته، حيث سبقه أخيه بسنوات.
صديقي الذي لم أملك ما أقنعه به للحيلولة دون سفره، فقد كان ينوي الزواج ولا عمل ثابت له يكفيه مصروفه فما بالك عن مصروف أسرة وتكاليف الزواج، ولا يملك منزلاً ليسكن به عند زواجه، وفوق ذلك عليه أن يساعد أهله في مصروفهم، فاختار السفر عله يستطيع مساعدتهم من بعيد وتأمين انطلاقة له لحياة كريمة لائقة بشهادته التي لم يعمل بها يوماً.
أعود إلى المنزل، وأفتح الفيسبوك، فأرى منشوراً يتحدث عن التنمر، وأننا مجتمع يكثر فيه التنمر، ويكمل المنشور الحديث عن السيطرة على المشاعر وضرورة الاسترخاء وسماع الموسيقى، للحفاظ على أعصابٍ هادئة. في منشورٍ آخر أقرأ عن اعتقال شاب جامعي لمجرد كتابته منشوراً يحمل تأففاً من السلطة وانتقاداً لعملها وسياستها. أعود إلى صفحتي فيسألني الفيسبوك ما الذي تفكر به، فأجيبه بداخلي حسناً لن أفكر بشيء، لطالما أعيش في غابة ليست بحجم الوطن بل بحجم العالم، وتتطلب مني الحضارة أن أتصرف كدبلوماسي، فلن أفكر بشيء، الصمت وحده جوابي، نعم الصمت إلى حين يمكنني الصراخ بوجه العالم، وأجبره على سماع صوتي كما أريده أنا لا هو.