الأخضر يغطي سوريا

جرت العادة بأن يطلق اسم “حوارنة” على الأشخاص المنحدرين من مدينة درعا وكان الكل يعرف بأن هذا اللقب هو نسبة للمنطقة الجغرافية المسماة تاريخيا بسهل حوران، لم أجد في هذا أي شيء غريب حينما ينسب إنسان ما لمنطقته الجغرافية، ولم أتأخر كثيرا في طفولتي كي أدرك أن هذا اللقب كان يحمل شيئا من التنمر، فهمت فيما بعد أنه يحمل تمييزا طبقيا بين أهل المدن و أهل الريف “الفلاحين” الذين خرجت من بين عائلاتهم و لم يكن هذا يزعجني أبدا
ولكن لحظة:
هل هذا يعني بأنني فلاحة!
نعم، يجيبني عمي الثمانيني، ولكن يا عماه أنا حقا أحب الأرض غير أني لم أجرب يوما أن أطأها حافية حتى أنني لم أشارك يوما بسقاية النباتات التي تزرعها أمي على شرفة المنزل،
“ولك.. أسكتي يا عجية”،
كنت أكرر السؤال ذاته على عمي الأكبر والأحب لقلبي كلما كان يأتي لزيارتنا، أضحك ملء قلبي عندما أراه ينتفض كلما كررت هذه الإجابة لذلك السؤال المتكرر بيننا بلا نهاية، فعمي كان يؤمن أن الانتماء لطبقة الفلاحين شيء كلون العيون، نحمله في جيناتنا ونورثه لأبنائنا ولا يهم إن كان هناك علاقة مباشرة مع الأرض ففي النهاية نحن ملاكها وآباؤنا من زرعوها وأنتم تعيشون وتدرسون من خيراتها والعار يلحق كل من أنكر “أصله”.
أمي تنهرني كلما بدأت هذا النقاش المتكرر مع عمي:
“ولك هدي بالنا عمك هسا بيطلع خلقه وبيسمع كل الجيران”
“يمّا اطلعي براتها وخليني أسولف مع عمي، الله يخليك”
أمي المتخرجة من قسم التاريخ والتي أمضت معظم حياتها في مدينة دمشق قبل أن تعود لمدينتها درعا بعد زواجها كانت لا تحب هذا النقاش مع عمي الأكبر “كبير عائلتنا” الذي يكون ابن عمها في الوقت ذاته وكانت تعتبر هذا من قلة الأدب الذي لا ينقص “جيل هاي الأيام”
كان والداي لا يأبهان لما جرى وكانت قناعتهما بأن سوريا بعيدة كل البعد عن هذه الأحداث، “الحكومة هنا متجبرة ولا ترحم” كانت تردد أمي كلما شاهدت الحشود مترامية الأطراف في القاهرة،
لكن للحقيقة سأعترف،
لم أكن أبدا أمازح عمي، ففي أعماقي لم أكن أشعر أبدا أنني فلاحة، كان يثير استغرابي دائما كما يثير غضبي التعليقات السخيفة والتنمر الصادر من صديقاتي في الجامعة في كل مرة أجرب فيها ارتداء شيء باللون الأخضر مهما كان، هنّ أيضا كنّ يحببن مزج الأخضر في لباسهن ولكن لم يكن سيف التنمر مسلطا عليهن.
وعلى الرغم من كل هذا، كنت أحب هذا اللون ولا أتخلى عنه و للتأكيد لا علاقة لمحبتي لهذا اللون بأي جين في متسلسلة ال DNA خاصتي.
في آذار 2011 كنت في دمشق في غرفتي المطلة على جبل قاسيون في الطابق الرابع في إحدى الوحدات المخصصة للطالبات في السكن الجامعي في المزة وكان كل شيء عاديا.
الأخبار الواردة من تونس ومصر وليبيا توحي بأن شيئا ما تغير للأبد، كان والداي لا يأبهان لما جرى وكانت قناعتهما بأن سوريا بعيدة كل البعد عن هذه الأحداث، “الحكومة هنا متجبرة ولا ترحم” كانت تردد أمي كلما شاهدت الحشود مترامية الأطراف في القاهرة، لمّا يكن أحد بعد يستخدم مفردة “النظام” واستمر والدي بعمله بدائرة الضرائب التابعة لوزارة المالية في درعا و كان كل شيء عاديا.
في الخامس عشر من آذار ظهرت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للخروج في مظاهرات ضد النظام، سبق ذلك تجمع التجار في سوق الحريقة التجاري احتجاجا على الاعتداء على أحد العاملين هناك من قبل رجل شرطة ولأول مرة يحضر وزير الداخلية فورا.
ارتديت بنطلوني الجينز مع بلوزتي الصوف الخضراء المزينة بخطوط متقاطعة باللون الأحمر وخرجت للمشي في ذلك اليوم ضمن حدود المدينة الجامعية.
كل الجو العام يوحي بالتوتر، عناصر الأمن بوجوههم المتوترة على مداخل المدينة الجامعية لم تكن ذاتها، وصديقاتي جميعهن يتحدثن بما يجري، كنت أميز الموقف السياسي للمتحدثة من نبرة الصوت فمن كانت تتكلم همسا كانت في صف الحماس والرغبة لصنع النسخة السورية من أحداث مصر و تونس و ليبيا و من كن يجادلن بصوت عال كنّ يبدين الاعتراض على ما يجري في ليبيا فقط،
لكن الجميع كان يهذي بجملة كالتميمة،
“سوريا الله حاميها”،
في المساء تواردت الأخبار بكثافة عن مسيرة في سوق الحميدية وعن اعتصام أمام وزارة الداخلية ولكن الخبر الأكبر بالنسبة لي كان اعتقال الأطفال من مدرسة في مدينة درعا.
مدينتي
كان سهل حوران الذي تكلم عنه عمي الأكبر يتماوج في أخضر خيالي ولم أنتظر حتى نهاية الأسبوع للعودة لمدينتي ولم أكن بحاجة لتأكيدات أمي على ضرورة العودة من دمشق لأنها كانت “على كف عفريت” بحسب آخر مكالمة بيننا، لم تدر أمي أن مدينتها هي التي ستنتفض على هذا العفريت بعد يومين فقط.
لم أشعر من قبل بهذا الحبل السري المتين بيني وبين هذه المدينة، كانت بالنسبة لي المكان العادي الذي ولدت فيه والذي ولد فيه أبي وأجدادي من قبل وعلى الرغم من التنمر الذي كان يرافق الإشارة إليها مزاحا أو بجدية في حديث الأصدقاء والصديقات إلا أنها لم تأخذ مني حيزا ما كما تفعل مدينة مثل دمشق أو حلب في وجدان أبنائها مثلا، لكن منذ الآن هناك شيئ ما يتغير في داخلي، أصبحت أكز على أضراسي في حرف القاف ليظهر التعطيش واضحا كما ينطقه أبناء درعا و كأنه حرف الجيم المصري، غيرت طريقة ترتيب الألوان في ملابسي التي أرتديها، كل ألوان ملابسي يجب أن تكون حيادية أمام اللون الأخضر،
كان سهل حوران الذي تكلم عنه عمي الأكبر يتماوج في أخضر خيالي ولم أنتظر حتى نهاية الأسبوع للعودة لمدينتي ولم أكن بحاجة لتأكيدات أمي على ضرورة العودة من دمشق لأنها كانت “على كف عفريت” بحسب آخر مكالمة بيننا، لم تدر أمي أن مدينتها هي التي ستنتفض على هذا العفريت بعد يومين فقط.
كنت أشعر بتصاعد الغضب في الشارع، وجهاء المدينة الذين ذهبوا لمقابلة المحافظ كانوا يستنفرون الأهالي دفاعا عن الأطفال المعتقلين.
كانت درعا مدينة كأنها عائلة واحدة تبحث عن أطفالها، غمرتني مشاعر متناقضة من الخوف والحزن والاعتزاز أيضا، في يوم الجمعة كان أبناء عمومتي وجيراننا يتحضرون للخروج، كانت هناك دعوات لمظاهرات أطلقوا عليها “جمعة الكرامة” لم أستطع مقاومة رغبتي في المشاركة عندما رأيت بعضهم يعد لافتات كتب عليها “الموت ولا المذلة”
ارتديت ملابسي وبمجرد الخروج للصالون الكبير صرخت أمي وأمسكتني من شعري ونادت والدي الذي كان يجلس مع أخاه الأكبر.
نهرني والدي بصوت قاس من النادر أن يصدر عنه، ودون مقدمات انهمرت دموعي
وحده عمي الأكبر “كبير عليتنا”
ضمني لصدره
“بنت أصل يا عمي”