قناص الإذاعة

يهرول أبو فؤاد خافضا رأسه، عابرا شارعا أقيم في نهايته ساتر ترابي، يحني هامته قدر ما استطاع محاولا إبقاء جسده المربوع دون ارتفاع الساتر.
لكنه طويل القامة وهذه في الحرب تكون نقطة ضعف قد يدفع الإنسان ثمنها حياته، ومحاولته لن تكون مثالية للتخلص من قناص يكمن في بناية عالية وبعيدة، لكنه في النهاية لا بد أن يحاول، فذلك هو طريقه اليومي من بيته في حي المشارقة نحو مخبزه في الطرف الثاني من الشارع على أطراف حي بستان القصر، ولن يسجنه خوفه من القناص في بيته على كل حال، فالناس لا تحتمل إغلاق الفرن وهو لا يتحمل عناء ضجيج الأطفال في البيت.
“يامو على الله” بلهجته الحلبية كان يفتتح حواره الصباحي عن رحلة الموت التي يخوضها كل صباح معلنا انتصاره في النهاية في اجتياز ما يسميه “باب جهنم” والذي أصبح قدرا لكل من يقيم في هذا الجزء المثير من العالم.
“من جنب أذني مرت”
“صفرت صفر”
“يا يوم! لو شعرة كانوا تيتموا الاولاد”
عبارات كان يخاطب بها نفسه وهو يلتقط الخبز العابق بالبخار الخارج للتو من بيت النار، يجمع كل خمسة أرغفة سوية بيدٍ واحدة ويضربها على الميزان بحركة سريعة، يدس كيسا من النايلون بين الأرغفة ثم يناولها للزبون بيديه الاثنتين
“خو خاي” الله يحميك من شر الغفلة
كانت الزبائن تحصل على دعاء مجاني من أبو فؤاد مع كل ربطة خبز كان يناولهم إياها.
لقد بات القناصون عنوان الموت الأشهر في المقتلة السورية – سيتفوق عليه فيما بعد ذلك الاختراع البدائي المسمى “بالبرميل” – وعادة ما يتمركز القناصون على الأماكن المرتفعة في حلب وأصبحت شهرتهم تفوق المعالم العامة في مدينة تاريخية مثل حلب، فلا يخلو حوار بين اثنين عن ذكرهم.
لقد أصبح شائعا أن تجد أمامك على مداخل الطرقات لوحات كتبت كيفما اتفق بخط غير مقروء أحيانا تحذرك من إكمال الطريق، فالموت يتربص بالطريق المرصود من عدسة قناص مختبئ في مكان ما وحتى لو لم تجد لافتة التحذير هذه فستجد في أماكن كثيرة من قطعة الجحيم هذه المسماة بحلب ساترا ترابيا يحميك أو بقايا باص أو مركبتين فوق بعض على مدخل أحد الشوارع كدليل على وجود قناص في الطرف الآخر.
لقد بات القناصون عنوان الموت الأشهر في المقتلة السورية – سيتفوق عليه فيما بعد ذلك الاختراع البدائي المسمى “بالبرميل” – وعادة ما يتمركز القناصون على الأماكن المرتفعة في حلب وأصبحت شهرتهم تفوق المعالم العامة في مدينة تاريخية مثل حلب، فلا يخلو حوار بين اثنين عن ذكرهم.
قناص القصر البلدي قاعد فوق تلاتين طابق، قناص القلعة، قناص الإذاعة ….
القاتل المجهول المعلوم الذي ينتظر الهدف للوصول إلى نقطة تقاطع الخطين في عدسته ثم:
بضغطة بسيطة من أصبعه على الزناد يضع حدا لحياة إنسان ما ببساطة
لم يطل الأمر كثيرا حتى تسللت القناصات نحو الجهة الثانية من المتاريس، لقد أصبحت لعبة الموت متبادلة، البارحة أعلنت صفحات الألوية العسكرية عن نشر قناصات معارضة في وجه قناصات النظام.
أخذت أفكر!
ماذا تفعل القناصات في مناطق مدنية؟
القناصون لا يرون بعضهم، القناص إنسان يقتل وهو مختبئ،
حسنا لا بأس،
قانون العين بالعين في لغة الدم الأزلية،
في الأمس صادفت أبا فؤاد في طريق عودتي من الجامعة عصر البارحة، كان يمشي مع أولاده بسرعة:
_روح على بيتك بسرعة يا عمي
_ شو في ؟!
_”لك روح لك خاي لا تسأل” بلهجته الحلبية المرحة الحازمة ومضى في طريقه بلا تردد.
في المساء علمت بأن قناص الإذاعة قد استطاع استهداف مدير معبر كراج الحجز أبو غياث وقتله وقد احتشدت الفصائل المسلحة تجهيزا لشيء ما وتم إغلاق الحاجز، لم يطل الانتظار فقد دارت اشتباكات عنيفة بين الثوار وقوات النظام ظهر اليوم التالي واستمرت يومين ولم تخل من قصف الدبابات المتمركزة على جبل الإذاعة فيما أعلن “جيش المجاهدين” عن تمكنه من قتل القناص المتمركز في منطقة الإذاعة برشاش ثقيل من طراز 14,5.
للمرة الأولى أخذت أتخيل كيف تمزق جسد القناص بهذا السلاح المخصص لاقتناص الطائرات، شعرت بشيء من العدل ومن خيبة الأمل غير المفهومة.
في الحرب تصبح المشاعر كلها غير مفهومة ليس هذا الشعور وحده.
بقي معبر بستان القصر مغلقا لمدة أسبوعين بعد هذه الحادثة حتى نفذ صبر الأهالي وأنا منهم فمنذ ثلاثة أيام كانت أمعائي تتلوى لسبب ما و لم أستطع الخروج من المنزل وفي الليلة التي أعلن فيها عن إعادة فتح المعبر تماماً كان الألم على أشده ولم أستطع أن أنم من شدته، سأذهب في الغد لعيادة أحد أقربائي لأمي في حي السبيل.
استيقظتُ باكراً، غادرتُ المنزل حوالي الساعة السابعة صباحا. سرتُ في طريق الملعب البلدي إلى أن وصلت المعبر؛ كانت أول مرة أرى فيها هذا المعبر مملوءا بهذا العدد غير المنتهي من البشر.
عبرت عدة شوارع وأحياء حتى وصلت لساحة كبيرة، مرصودة من عدسات لأكثر من قناص، لقد كان هناك بشر كثيرون يمشون، بعضهم يحمل حقائب على كتفيه وبعضهم يحمل أطفاله على كتفيه، آخرون يسحبون عربات تقل العجائز والمصابين.
بدأ الألم بالازدياد في أمعائي لدرجة كانت قدماي تهتزان بقوة، حتى أني لم أعد أقوى على الوقوف، شعرتُ بغثيانٍ من معدتي نحو رأسي الذي أصبح عبئاً على كتفيّ!
انتحيت إلى جانب الطريق مقعياً على نفسي أحاول الاستفراغ.
فجأة:
إطلاق رصاص متتال نحو هذا الحشد البشري ولم يتأخر الرصاص من الطرف المقابل عن الإعلان عن وجوده وجاهزيته والمدنيون عالقون في المنتصف، لم يستوعب عقلي المشهد للوهلة الأولى، بقيت جاثما على نفسي على طرف الطريق، لقد كانوا أربعة قناصين على الأقل من اتجاهات مختلفة:
من جهة القلعة، وواحد من جهة البساتين، والقناص المتمركز فوق مبنى الإذاعة، ومن الجهة الأخرى قناص للجيش الحر، كانوا جميعهم يطلقون النار.
صاح أحدهم:
انبطحوا …
تكورت على الرصيف دون أن أميز خوفا من القناص أم من شدة الألم، كان أمامي في منتصف الطريق رجل ستيني مربوع الجسد يصرخ والدم ينزف منه ووراءه كانت امرأة تنزف دون حراك.
لم يهدأ صوت الرصاص.
واستمر الرجل يتلوى من الألم، لقد كان الدم ينزف من رقبته، حاول البعض الاقتراب منه، لكن القناص كان جاهزا لقتل من يظهر على عدسة سلاحه.
في النهاية استطاع بعض الشباب سحب الرجل بقضيب معدني رغم ضخامة جسده، كانوا يسحبونه وهم يصيحون تشهد يا عم تشهد، استطعت أن أرى إصبع ذلك الرجل المغطى بالدماء تتحرك كما لو كان يرد على ندائهم.
استطاعوا سحبه نحوهم رويدا رويدا، بقي القليل ليستطيعوا إمساكه من معطفه السميك، لكن طلقة القناص عاجلتهم نحو رأسه.
وصل الجسد إلى الرصيف مشوه الوجه جثة هامدة.
أمعائي كانت تتمزق من الألم، اختلط الدمع بالملح بالغبار في عيني وأنا أحاول إعانتهم على سحب الجثة.
لقد كان جثة الفران أبو فؤاد.