لما تخرا عالحاجز

وكان هناك فيلسوفان إغريقيان تأملا الكون كما لم يفعل أحد من قبل، ثم كان أن عاينا مسألة الحمق البشري عن قرب. أما ديمقريطس فضحك، وصار يدعى الفيلسوف الضاحك. وأما هرقليطس فبكى، وصار يدعى الفيلسوف الباكي. وفي سبيل الوصول إلى حل وسط، من قبيل الجمع بين رأيي الحكيمين، قررتُ: ما دام المريض يبول فهو بخير. لكن ذلك كان في مرحلة لاحقة، فقد سبقها: ما دام المريض يتبرز ويخرج الغازات فهو بخير. ولم تكن تلك القواعد وليدة نظرة اختزالية للإنسان تُماهيه بأجهزته الإطراحية، فأكثر الأطباء الذين عرفتهم يقرون بأن الإنسان أكثر من مجرد كليتين أو مستقيم، وإن كان للسياسيين رأي آخر. المسألة ببساطة هي أنك تحتاج إلى قواعد عامة تعينك على تلمس خطاك وسط غابة المرضى والأمراض والأعراض: أيّهم/أيّها يتطلب منك تدخلا فوريا؟ وأيّهم/أيها بوسعك أن تنتظر حتى تشرق الشمس وتغرب عليه/عليها؟ ويمكنك أن تتخيل أن لكل طبيب، وفق ما يمليه عليه تخصصه، قاعدته المفضلة: ما دام المريض يتنفس… ما دام يخفق قلبه… ما دام يرى… ما دام لا يعاني من حكة وهرش فهو بخير.
وانسجاما مع ما سبق، كان انسداد الأمعاء الحاد حالة إسعافية. وإن كنت تظن أن سببه التخمة، فسيأخذ العجب منك كل مأخذ حين أحدثك عن حالات وقعت في مكان يتضور أبناؤه جوعا. وما عساه يكون إذن؟ الأورام، الالتصاقات، الانفتال، الانغلاف، الفتوق، الأجسام الأجنبية المبتلعة… وهذه وسواها تسبب ما يدعونه: الانسداد الميكانيكي. وفوق مستوى الانسداد، تتراكم السوائل التي يفرزها جهازك الهضمي والهواء الذي تبتلعه بحثا عما يمسك الرمق، ويصبح لك بطن حبلى في الثلث الثاني من حملها. ستشعر بالغثيان، وستقيء طعاما ربع مهضوم ثم حمضا ثم صفراء ثم برازا (وهذا رهن بمكان الانسداد وبآخر وجبة جوفاء التهمتها). وفي محاولة من أمعائك للتغلب على هذا الانسداد الميكانيكي، فهي لا تيأس مثلك بسرعة، ستشتد تمعجاتها مشعرة إياك بألمِ مَن أجاءها المخاض إلى زريبة من القوادين.
كانت الغرفة شحيحة الضوء والهواء، وكان ينزوي على سريره الجاثم في إحدى زوايا الغرفة. في مثل هذا الوقت من النهار تكون قناة “ناشيونال جيوجرافيك” العربية تبث وثائقيات عن أمريكيين يستجمون في تايلند حيث يدهنون القوارب مع المحليين، أو يترَوْحنون في الهند مع المنبوذين، أو يتَبَرْنزون تحت شمس ماما أفريكا. وهذا المسكين قابع في مخيم اللعنة يحلم بضرطة تريح بطنه بعض الراحة، ولن يبالي أن يدفع مقابلها ملك هارون الرشيد: ربطة من الخبز أو نصف كيلو من الرز.
ولكن فيزيولوجيا الهضم ليست درسا في ميكانيك الصرف الصحي. فأعراض الانسداد هذه قد تنجم عن شلل أو شبهه يصيب حركة الأمعاء نسميه خَزَلا، والخزلُ لغةً “مِشية فيها تثاقل وتراجع” كأنه إقبال الدنيا إليك وإدبار الكوابيس عنك، وله أسباب كثيرة ليس من بينها أن هيئة الأمم المتحدة قالت لك: Good luck . والتمييز بين ذاك الانسداد الميكانيكي وهذا “الانسداد” الخزلي ضروري للطبيب إن لم يكن من أهدافه إضافة سبب آخر يعجل في وفاة مريضه.
لم تكن حال مريضنا تسمح له بالقدوم إلى عيادتي في المجمع الطبي الخيري، فجاء بعض جيرانه ليصطحبوني إليه. ويخطر في بالي أن اسمه كان أبو حازم. لم يكن من داع أن أنظر نظرة في النجوم لأدرك أنه سقيم، وأن سبب سقمه انسداد خزلي في الأمعاء، فبعض الفحوص السريرية تفي بالغرض، وأجرام السماء لا تبالي بما يحدث على أرضنا.
كانت الغرفة شحيحة الضوء والهواء، وكان ينزوي على سريره الجاثم في إحدى زوايا الغرفة. في مثل هذا الوقت من النهار تكون قناة “ناشيونال جيوجرافيك” العربية تبث وثائقيات عن أمريكيين يستجمون في تايلند حيث يدهنون القوارب مع المحليين، أو يترَوْحنون في الهند مع المنبوذين، أو يتَبَرْنزون تحت شمس ماما أفريكا. وهذا المسكين قابع في مخيم اللعنة يحلم بضرطة تريح بطنه بعض الراحة، ولن يبالي أن يدفع مقابلها ملك هارون الرشيد: ربطة من الخبز أو نصف كيلو من الرز. وهو لا يعرف أنه خلال دقائق سيصبح كائنا فضائيا تخرج من جسمه وتدخل إليه وتتدلى مجسات وأنابيب وأكياس. فالحكمة التقليدية تقتضي إدخال أنبوب إلى معدته عبر أنفه، وآخر من فوهة شرجه إلى مستقيمه، وثالثا في إحليله ليستقر في مثانته، ورابعا في وريد من أوردته ليمده بالسوائل. ولا أظنني بحاجة إلى كشف المنطق الذي يستتر وراء مبدأ “القثاطر الأربعة” هذا، ثم إن التجفاف واضطراب الشوارد اللذين يصاحبان الانسداد المعوي لهما مضاعفات عصبية وقلبية وكلوية لا تُحمد، ومنع حدوثها أسهل بكثير من تدبير أمرها إن حدثت، سيما في تلك الظروف البديعة.
كان لي في ابن سينا والرازي ووليم أوسلر ودومينيك كوريجان أسوة حسنة، وكان للمرضى في النبي أيوب أسوتهم.
في سنوات التخصص، تعاملنا مع كثير من حالات الانسداد المعوي بكل أشكاله وأنواعه وأسبابه. وكان هذا المشهد يتكرر كثيرا: أحد مرافقي المريض يأتيك هاشّا باشّا، وقد ارتدّت الدموية إلى وجهه وهو يخبرك أن مريضه أخرج غازات أو تغوط. ولا أزال أذكر أباً أتاني وعيناه تفيضان من الدمع وهو يحمل في صحن زجاجي بعضا من البراز الذي جادت به أمعاء طفله الوحيد. وكان لي في تلك السنوات صديق يكبرني سنا وعلما أكد لي أن الطبيب الذي يعالج مريض انسداد معوي يجد لفساء مريضه ريحا تفوق ريح المسك عبقا وشذا. وكنت أجد في قوله هذا مزيجا من المبالغة والشذوذ ورفعة الأخلاق الطبية والفخر بروعة الإنجاز. وهو فخر له، وللحق، ما يبرره.
لم تكن صورة “أبو حازم” بهذه الوردية. أزعم أنه تحسن واستقرت حالته مبدئيا، لكنه لم يُشفَ، ولم أصل إلى سبب آفته، ولم أرضَ بالنتيجة. ولم يكن في حوزتي من الاستقصاءات الشعاعية والمخبرية ما يُعينني. ولو أن طب القرن الحادي والعشرين سمع بقصتي مع هذا المريض أو سواه، لظنني شاماناً في قبيلة لاكتابية يستعين بالكهانة والسحر لعلاج أبناء قبيلته. أيُّ انسداد هذا الذي لا نجري فيه ــ على أقل تقدير ــ صورة شعاعية للبطن بوضعية الوقوف؟ لكن يعلم الله أنني لم أكن ساحرا أو كاهنا، كان لي في ابن سينا والرازي ووليم أوسلر ودومينيك كوريجان أسوة حسنة، وكان للمرضى في النبي أيوب أسوتهم.
عُدتُه في منزله مرتين أو ثلاثا بعدها، أتابع حالته، وأزوده من ترسانتي للعلاجات غير المعتادة. يذكرني أخي أنني كنت أعطي مريضنا الديكسبانتينول، وهذه الحقن الفيتامينية يحبذها من لديهم مشاكل في البشرة والشعر. لكن لها بعض التأثيرات الجانبية، كتسببها بالإسهال مثلا، والطب بارع في تحويل الأثر الجانبي لدواء ما إلى أثر علاجي. ثم كان أن أخبرت أهله بضرورة إخراجه من المخيم لمتابعة علاجه، وتمكنوا من فعلها عبر حاجز القدم. أذكر أن ابنه لم يأتني هاشّاً باشّاً يزف لي بشرى نجاة والده من غيابة المخيم، بل جاءني يقهقه، وأخبرني أن والده “خِري عالحاجز”. وخرئ الإنسان يخرأ خِراء وخِراءة فهو خارئ: أي طرح جهازه الهضمي فضلات طعامه. وما يطرحه من فضلات هو الخُرْء وجمعه خُروء. وجاء صاحب لسان العرب بمثال بليغ ليعلّم قرّاءه كيفية نطق تينك الكلمتين فكتب: مثل جند وجنود. ثم أنشد: “كأن خروء الطير فوق رؤوسهم”. والعين في قوله “عالحاجز” مخففة من على، وهي هنا لا تفيد الاستعلاء بل تعني الظرفية، أي كأنه قال: عند الحاجز. فالذي خِلتُه مجازا بادئ الأمر كان حقيقة. وأوضح لي ابنه أن الرعب الذي شعر به والده لحظة بلوغه الحاجز وتسليمه أوراقه للضباط كان كفيلا بجعله يخرأ كما لو كان رضيعا أتخمته أثداء المرضعات، وامتزج رعبه آنذاك بسعادة غامرة حتى إنه فكر بالتراجع عن مغادرة المخيم باعتبار أنه “خري ومشي الحال”، وهذا غاية المراد. ولك أن تتخيل في بلد كان يصيبنا فيه الرعب من دخول مركز سجل مدني لإخراج قيد نفوس; أو مؤسسة لدفع فاتورة المياه; أو شعبة تجنيد لتأجل خدمة العلم ذي العينين الخضراوين، فتعتل طباعنا وتختل أخلاطنا وتعتكر أمزجتنا وتكاد مِصَرّاتنا تفقد قدرتها على استمساك البول والبراز… أقول: لك أن تتخيل ما سيصيبك عند حاجز يتربص جنوده بك الدوائر، ولا يرقبون فيك إلّاً ولا ذمة. وقد نجا أبو حازم من سكَرات الحاجز وما يحدث عنده من لطائف القدرة وعجائب السلطة، ووصل إلى أحد مشافي دمشق تحمله ملائكة الرحمة.
ومن يدري؟ ربما تُدرج هذه الوسيلة قريبا في بروتوكولات الكُلّية الملكية الأسدية لتدبير انسدادات الأمعاء المُعنِّدة. ولا بد في هذا السياق من الإشادة بتفهم ضباط الحاجز. ففي فلم “الحدود” يسأل أحد الحرس المواطنَ “غوّار” عن سبب قضائه حاجته في مكان بعينه فيجيبه: “كنت بدي إعملا عالحدود، خفت تتفسر”. فكل فعل من أفعالنا في بلادنا الجميلة له تأويل، وكل قول له ظاهر وباطن، ولم يكن خِراؤك على الحاجز ليمر مرور الكرام لولا تعمق أبناء جيشنا الباسل في طب الجسد وفقه اللغة.