في متاهات الدروب

«الأشجار في الغابة، توحي بالبهاء والروعة والحياة…
وتطمئنّ النفس بتغريد طيورها، وترتاح لنسائمها الرطبة… لكنّ البرد الشديد والأمطار والثلوج، تُحيلها موحشةً، وتجعل منها عقوبة لمن تسوّل له نفسه ولوجها، فما بالك إذا ما تحوّلت إلى متاهة للمُجْهَد الباحث فيها عن دربٍ للنجاة والوصول؟ للغريب الهائم من دياره تطارده مخاوف الموت بالاعتقال أو القنص أو تحت ركام البيوت المدمّرة؟ للضائع في مجاهلها ولا مسعفٌ له من البشر أو التقنيّات الحديثة، يُهديه درب الخلاص؟».
كان يبوح من أعماقه، كأنه لحظتها يستعيد تلك الأيام التي قضاها في غابات مقدونيا وصربيا، في شتاءٍ أقلّ ما وصف به أنّه كان شديد البرودة، كثير الأمطار والثلوج.. ويغوص في أدق خلجات نفسه التي اختلجت بها وهو يدور يوماً كاملاً، ليرى نفسه وقد عاد إلى نقطة البداية، ولا طعام أو شراب في حقيبة ظهره، التي تقيم أوَدَهُ.
كان “مجيد” يحدّثني بانفعال عجيب، في لقائنا الأول في ألمانيا، حين وصل إليها بعد تسعة أشهرٍ من معاناة الطريق الطويل، الذي قطعه برفقة “وفيق” رفيق رحلته من سورية، هاربان من التهديدات الأمنية، ومن دواعش “النصرة” الذين احتجزوهما أسبوعاً بنية قتلهما وتصفيتهما، بعد أن حكم مفتيهم بتكفيرهما، في منطقة “السبينة” جنوبيّ “دمشق”.. لكن (من له عمرٌ لا تقتله شِدّة) كما يقول المثل، فقد كتب القدر لهما عمراً جديداً، مرّتين في ليلة واحدة: أوّل مرّة حين هربا ليلاً من سجنهما، في الطابق الثاني لبناية على العظم، بعد أن غطّ حارساهما في نوم عميق، حيث قفزا على كومة تحت البلكون، كانا يظنّانها تراباً، فإذا هي أجساد بشرية مقطّعة الأوصال تعوم بدمها ونتنها وتفسّخها.
سارا غرباً في ركام وحطام الأبنية المدمّرة نصف ساعة من الزمن. وأحسّا بالأمان حين لاح لهما جسر “صحنايا” من البعيد، فجأةً ينهمر الرصاص عليهما كزخّ المطر.. خالجهما الشعور للحظة بأن أمرهما انكشف، وأن النهاية هنا.. لاذا بسرعة بين بقايا بيت مهدّم، والرصاص يتطاير حولهما. كاد الفجر يجهر بخيوطه الأولى، وهما لم يعلما بعد بأنهما أحبطا كميناً أمنيّاً، أعدّه أمن النظام للإيقاع بفصيل لـ”جبهة النصرة”، لاختراق منطقة “السبينة” وفتح الطريق الواصل شرقاً إلى الثكنة العسكرية المحاصرة قرب جسر المطار على طريق “دمشق”- “السويداء”.
من مكمنهما بين الركام، شاهدا المعركة الطاحنة التي ابتدأت قبل أوانها، حيث ظنّ عناصر الأمن أنهما من “النصرة”، وهما يجريان غرباً بين الخراب، فأطلقوا عليهما النار، ليرد عناصر “النصرة” المتمركزون على بعد مئة متر شمال خطّ سيرهما، وتشتعل المعركة.
وكتب القدر لهما عمراً جديداً أيضاً للمرة الثانية في هذه الليلة، حين اشتعلت الأرض حولهما بالقنابل والرصاص وغطّاهما الغبار، وحين مرّت المركبات العسكرية شرقاً على بعد مترين منهما، تطارد “النصرة” المنسحبة أمامها، دون أن يصابا بأذى.
بعد أيامٍ، داهم عناصر الأمن منزلهما وبحثوا عنهما كمطلوبين من عناصر “النصرة”، لكنّ “التفّاح” أنقذهما هذه المرّة، فقد غادرا قبل يوم واحد إلى “عرنة”، في جبل الشيخ، للمقاولة على بستان تفاح لقطافه في الشهر التالي.. ومن هناك سمعا بملاحقتهما، فهربا إلى لبنان عن طريق بعض المهرّبين، ليشقّا طريقهما إلى مكان للجوء أكثر أمانا- أوروبا، عبر تركيا فاليونان.
كان “مجيد” يتحدّث عن التجربة مستحضراً تأثيراتها النفسية، ومخلّفات ما تستقطبه من ذكريات الأهل والعائلة والأبناء، وقد أحسّ كلٌّ منهما بدنوّ الأجل. اتّفقا على تحديد وجهة قدّرا أنها تتقاطع مع طريق رئيسيّ يصلانها، وسارا متعثّرين.. متساندين.. يشدّ أحدهما أزر الآخر ببعض كلمات التشجيع، مستجمعين ما تبقّى لديهما من قوّة وشجاعة..
هنا، في اليونان، ابتدأت معهما معاناة من نوع آخر، المال قليل بحوزتهما، اتفقا مع مهرب يوصلهما إلى صربيا.. في مقدونيا قبض المال منهما وهرب، تاركاً إياهما في منطقة غابات، وواعداً بالعودة بالطعام والشراب، باتا ليلتهما على أمل عودته.. في الظهيرة بدأت السماء تمطر، فالتجآ إلى قرية ليبتاعا منها ما يسد الرمق، بعد أن أنهكهما الجوع والعطش.. ألقت دوريّة شرطةٍ القبض عليهما، وكأنّ واشياً وشى بهما، وأعادتهما إلى اليونان.
عملا في محطة وقود على الطريق السريع لشهرٍ ونصف الشهر، كان صاحبها تركيّاً تضامن معهما، ووفّر لهما المبيت والعمل، ثم قررا إعادة المحاولة، وحدهما هذه المرة. تزوّدا باحتياجات الطريق وانطلقا، اجتازا حدود مقدونيا، في غابات كثيفة وتحت المطر، قطعا مئات الكيلومترات، مرّة في سيارة وأخرى سيراً بعيداً عن المدن.. دخلا صربيا مستعينين بال (GPS) للابتعاد عن مراكز السكن خشية دوريات الشرطة. باتا ليلتهما الأولى الممطرة في الخيمة البلاستيكية الصغيرة، متدثّرين بكل ما لديهما من ثياب، وفي الصباح كانت الأرض تكتسي حلّتها البيضاء، كانت سماكة الثلج شبراً، تابعا المسير بين الغابات، بعد أن تزوّدا بمؤونة كافية من الطعام والشراب من محطة وقود على جانب الطريق، كانت الرحلة أكثر من شاقّةٍ، وقد أنهكهما التعب والبرد، ناهيك عن الوحول والثياب المبللة.
باتا الليلة الثانية كسابقتها، وقد ازدادت الأمور تعقيداً، حين نفدت طاقة مدخرات الشحن، وبعد مسيرة بضع ساعات انقطعا عن الاتصالات والتوجّه، حيث نفذت طاقة الهاتفين وانطفآ. قبيل المغيب أيقنا أنهما تائهان في الغابة الثلجية، وقد عاود الثلج غزل عباءته فوق الغابات.
كان “مجيد” يتحدّث عن التجربة مستحضراً تأثيراتها النفسية، ومخلّفات ما تستقطبه من ذكريات الأهل والعائلة والأبناء، وقد أحسّ كلٌّ منهما بدنوّ الأجل. اتّفقا على تحديد وجهة قدّرا أنها تتقاطع مع طريق رئيسيّ يصلانها، وسارا متعثّرين.. متساندين.. يشدّ أحدهما أزر الآخر ببعض كلمات التشجيع، مستجمعين ما تبقّى لديهما من قوّة وشجاعة… «لعل بعض الأنوار الضبابية التي تراءت لنا ساهمت في شحذ همّتينا على الرمق الأخير، كان الأحساس بالجسد معدوماً تماماً البرد جمّد المفاصل، فغدتْ كمفاصل سيارة لم تتحرك منذ أعوام وقد تآكلها الصدأ، سقطتُ فلم أستطع النهوض، حتى سحب “وفيق” عن ظهري الحقيبة الثقيلة. عند وصولنا أطراف البلدة كانت هاجعةً بعد انتصاف الليل، ولا يوجد من نسأله عن مركز بوليس لنسلّم أنفسنا، طرقنا عدّة أبواب ولم يفتح لنا أحد، يبدو أنهم كانوا يروننا من خلف الأبواب في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ولا يجرؤون على فتحها من المنظر المزري الذي كنا عليه.
أخيراً وجدنا مبنىً مضاءً، كان نقطة طبيّة، أشبه بمستشفى صغير، رثى موظف الاستعلامات فيه لحالنا، واتصل بالشرطة بناءً على رغبتنا. بعد نصف ساعة وصلت سيارة الشرطة بعناصرها الثلاثة، وأقلتنا إلى المركز، قدّموا لنا الطعام والشراب والدفء حتى الصباح، حيث كانت بانتظارنا حافلتان مملوءتان باللاجئين، عادتا بنا بحراسة الشرطة إلى الحدود المقدونية، لتتسلّمنا الشرطة المقدونية وتعيدنا بدورها إلى الحدود اليونانية، بعد أن استضافتنا ليلة في مركزها».
عملا في المحطة ذاتها أربعة أشهر، جمعا خلالها بعض المال، لزوم التنقل والسفر.. وفي أواخر الربيع، ودّعا صاحب المحطة شاكرين كرمه وطيبه، وانضمّا لمجموعة انطلقت عبر السهوب المقدونية فالصربية، ومنها إلى هنغاريا التي فتحت حدودها أمام اللاجئين، ونقلتهم في حافلات حديثة إلى النمسا، فألمانيا، التي استقبلت عشرات آلاف اللاجئين حينها.