مسجد على أنقاض مجزرة
في الأمس فقط استعدت توازني بعد مشاهد الجثث الطافية على جانبي نهر قويق قرب جسر السنديانة، كانت المجزرة الأولى التي سأشهدها في حياتي، ولست أعرف إن كانت الطمأنينة ستجد طريقها إلى قلبي مرة ثانية بعد ذلك، ما أعرفه أنني لن أسلك الطريق المحاذي للمعلب البلدي ثانية باتجاه الجامعة من جديد، سيرتبط هذا الطريق في ذاكرتي بمشاهد الأهالي وهم يغطسون في النهر شبه عراة ثم يخرجون حاملين معهم إحدى الجثث المنتفخة الطافية على سطح الماء، سيلازمني هذا المشهد حتى أترك مدينة حلب نهائيا بعد عام تقريبا من ارتكاب تلك المجزرة، كانت الرغبة لدي معدومة تجاه كل شيء، الطعام المكوم على الطاولة منذ خمسة أيام كما هو تقريبا، لم أتناول منه أي شيء، لقد حاولت معدتي الاحتفاظ بأي شيء يدخلها لكن مشاهد الجثث المكومة على طرفي النهر كانت تحول دون ذلك، حتى الشوربة التي أعدها لي أبو محمد صاحب البيت كنت أتقيأها شبه مغمىً علي، الذهاب للحمام كان يتطلب جهدا وارادة جبارة، بؤبؤ العين يصبح كحصاة مغبرة كلما حاولت أن تطبق جفنك عليه، الحلق جاف تماما، مشهد المياه المتدفقة من ثقوب الأجساد المنتفخة تكفي كي تشتهي الموت عطشا، العرق البارد، و كوابيس اليقظة كلها كافية كي تحطم ما تبقى من معنوياتك، عبثا تحاول البكاء لكن لن تستطيع.
أن تشهد مجزرة يعني أن تجد العلامات الحيوية لجسدك قد تغيرت تماما، المجزرة تعني أن الحياة توقفت عند ضحاياها وشهود المجزرة هم من ضحاياها أيضا و لم أك أعلم هذا من قبل.
سأقرأ لاحقا أن الجنود الألمان الذين ارتكبوا المجازر قد عانوا من اكتئاب أودى ببعضهم للانتحار، يبدو أن المجزرة تطيح بالجميع، ضحاياها وشهودها وحتى مرتكبيها.
مضت أكثر من عشرة أيام على هذه الحادثة، كنت في الجامعة عند سماع الخبر ولسبب ما ذهبت قرب جسر السنديانة، كان لدي صديق من بستان القصر وحاولت التضامن معه فتبعته نحو الحي، نحو النهر ثم نحو المدرسة التي تجمعت فيها الجثث ثم عبثا حاولت البقاء، كنت أجبن من ذلك، حتى الهتافات التي كانت تهدر في حناجر البشر المتجمعين حول الجثث كانت تستعصي على حنجرتي، حركت شفاهي معهم ولكني كنت أجبن من ارتكاب الشجاعة في مثل هذه اللحظات.
ستعتاد كل شيء لا تقلق، قال أبو محمد وهو يحرك ملعقة السكر في كأس الشاي، هز الملعقة بهدوء ليتخلص من قطرات الماء العالقة بها ثم وضعها في صينية نحاس عتيقة، وضع كأس الشاي بقربي ثم وضع يده خلف ظهري ليجبرني على النهوض، جلست، أخذ ينظر في عيني وكأنه يقرأ ما يدور ببالي:
الموت بشع والظلم أبشع بس يا ولدي البني أدم بيكمل حياته اللي ربنا كتبلو ياها، اللي ماتوا خلص عمرهم، أنت شفت الميتين بعيونك تخيل لو انه لا سمح لله كان حدا من أهلك بيناتهم، غيرك شاف الموت بعيونه وشاف أهله عم ينقتلوا وهو مو طالع بأيده يعمل شي.
ومنذ ذلك اليوم أدرك معظم السوريين الذين عاصروا تلك المرحلة أن أبنية الدولة ووزاراتها وحتى مدارسها ومشافيها من الممكن أن تتحول في لحظة عين إلى سجون ومعتقلات للموت،
لم أدر من قبل أن أبو محمد كان يتكلم عن نفسه على أنه الشخص الذي رأى بعينيه أهله يقتلون أمامه، لقد أخبرني ذلك وهو يغالب دموعا بدأت تتماوج في حدقتي عينيه السوداوتين، كانت التجاعيد حول عينيه تحكي هموم هذا الرجل الصامت الذي لا أعرف له عائلة من قبل، لقد كان يعمل كأمين مكتبة في ثانوية المأمون المجاورة لحي المشارقة منذ أربعين عاما، في ذلك اليوم البعيد في بداية الثمانينيات، صباح يوم عيد الفطر تحديدا، حضر الضابط هاشم معلا لحي المشارقة، دخل في البداية لدائرة الامتحانات ومن ثم عاد نحو ثانوية المأمون ومن ثم سمع الأهالي أصوات إطلاق النار في الحي قرب المقبرة.
في ذلك اليوم كان أبو محمد في منزله يتحضر لإعداد إفطار العيد لأخوته وأبنائهم الذين جاؤوا ليزوروا أمهم حين طرق جنود الحرس الجمهوري باب منزلهم بعنف ولحسن حظه أنه كان في المطبخ ليذهب أخاه ليفتح الباب.
لقد اختفى أخاه منذ ذلك اليوم أخبرني بعينين تطفحان بالدمع والنار.
في ذلك اليوم اقتاد عناصر الحرس الجمهوري أكثر من مئة رجل من حي المشارقة باتجاه مديرية الامتحانات قرب مدرسة المأمون ومن ثم اقتادوهم نحو المقبرة، لقد شاهدهم بعض الأهالي يدخلون المقبرة ومن ثم سمع صوت الرصاص ولم يخرج الرجال، لم يشاهدهم أحد منذ ذلك اليوم وعاد الجنود نحو قائدهم المتمركز في مديرية الامتحانات، ومنذ ذلك اليوم أدرك معظم السوريين الذين عاصروا تلك المرحلة أن أبنية الدولة ووزاراتها وحتى مدارسها ومشافيها من الممكن أن تتحول في لحظة عين إلى سجون ومعتقلات للموت، بعد المجزرة بثلاثة أيام اضطر أبو محمد للعودة لعمله في الثانوية، كان يشاهد الجنود يجلسون قرب بنادقهم في ثكنتهم الجديدة المعدة في الأصل للتعليم كانوا يحدقون في المشاة حولهم في ريبة وحقد وشماتة ولم يجرؤ أحد من السكان على مجرد النظر في وجههم، لكن أبو محمد كان يفعل ذلك خلسة من خلال الشبك المغطى لنافذة المكان الذي يعمل فيه، كان يشاهد قتلة أخيه يشربون الشاي ضاحكين، الحياة استمرت لكن بقهر هكذا قال لي وهو يرشف الشاي، يجب أن نستمر في الحياة.
صمت قليلا ، نظر في عيني ثم نظر بعيدا وفي الثورة أيضاً، أضاف:
السكوت عن المجزرة جلب مجازر جديدة.
لقد كانت عينياه تشعان هذه المرة، كان كمن يتحضر للثأر لقتلة أخيه،
كيف دفنت الجثث؟ سألته وأنا أفكر بالجثث التي رأيتها تتحضر للدفن في قبر جماعي بعد أن يتعرف عليها أصحابها.
الجثث؟! قالها بحقد.
لا أحد يعرف عنها أي شيء، منذ ذلك اليوم اختفى جميع هؤلاء الرجال وتم محو المقبرة عن الوجود تماما، لقد ردمت بكل من فيها ليبنى فوقها مسجد أطلق عليه مسجد الرئيس.
هل تتخيل حجم هذا الحقد، لقد أقاموا عليها مسجدا وسموه باسم الرئيس..
المسجد المقابل لمديرية الامتحانات؟
لم أكن من الأشخاص الملتزمين الذهاب للمساجد رغم أني كنت أصلي في بعض الأحيان، لكن كانت فكرة مرعبة بالنسبة لي أن أصلي وأنا أعلم بأن أحد أخوتي أو معارفي مدفون أسفل المكان الذي أسجد فيه.
سألت بخوف.
أجابني أبو محمد بهزة رأس.
لم أكن من الأشخاص الملتزمين الذهاب للمساجد رغم أني كنت أصلي في بعض الأحيان، لكن كانت فكرة مرعبة بالنسبة لي أن أصلي وأنا أعلم بأن أحد أخوتي أو معارفي مدفون أسفل المكان الذي أسجد فيه.
لم أجرؤ على سؤاله إن كان يذهب للصلاة هناك.
بقيت في المنزل بضعة أيام أخرى لا أقوى على الخروج، كانت لجسدي ردة فعل عنيفة على مشاهد الجثثة المتحللة، لازمتني الكوابيس ليال أخرى، لكن كان يجب الذهاب للجامعة لحضور مادة التصميم ذات الحضور الإلزامي ويتوجب علي النجاح بها.
رغم الفضول الذي اعتراني للذهاب نحو ذلك المسجد المسمى باسم الرئيس لكن قدمي لم تقويا على حملي هناك.
لا أريد البقاء في هذه المدينة أكثر من ذلك.
اللوحة لريمو برينديسي ١٩٧٠