ذاكرة حدث

لماذا كل هذا الحقد؟

خمسة أيام على مغادرتي لمدينة حلب، لم أنم فيها سوى فترات متقطعة معدودة، لقد أصبحت المدينة التي جئتها منذ ثلاث سنين فقط كابوسا لم أستطع التغلب عليه، لم أتخيل أنني سأستطيع اتخاذ قرار السفر بهذه السرعة، كنت أود على الأقل لو أنني استطعت إنهاء دراستي الجامعية هنا ولكن لا خيار آخر……

ساعدتني حواجز النظام المنتشرة في أرجاء المدينة والعساكر الواقفين عليها على اتخاذ هذا القرار، ولم تكن تصرفات المقاتلين على الجانب الآخر بأقل بشاعة، لم أصدق دموع أمي وهي تطلب مني المغادرة لكن لم يكن من خيار آخر، يجب أن أتجنب الالتحاق بالخدمة العسكرية بأي ثمن.

لقد كان مروان وأنا مثله نرفض فكرة الخروج من سوريا تماماً، لم يكن الأمر مرتبطاً بأي أوهام عن انتصار الثورة أو عن سقوط النظام، كل ما في الأمر أن البلاد بلادنا وسنبقى فيها وربما كان الأمر بكامله هو غياب الشجاعة حتى عن فعل الهرب…

حسمت خياري ورتبت الخطة، سوف أخرج أنا ومروان، صديقي من بستان القصر باتجاه تركيا ومن هناك سننضم لقوافل السوريين الراحلين نحو أوروبا، لقد كان كل شيء معدا سلفا ولن تكون هناك عقبات ولا حدود أمامنا كما كانت تقول الشاشات التي تعرض القطارات المحملة باللاجئين وهي تنزل حمولتها في المدن الألمانية.

لقد كان مروان وأنا مثله نرفض فكرة الخروج من سوريا تماماً، لم يكن الأمر مرتبطاً بأي أوهام عن انتصار الثورة أو عن سقوط النظام، كل ما في الأمر أن البلاد بلادنا وسنبقى فيها وربما كان الأمر بكامله هو غياب الشجاعة حتى عن فعل الهرب، لكن في الفترة الأخيرة كانت الحياة مختلفة، لقد بلغت عذابات السوريين حدا لا تستطيع معه أن تبقى على الهامش حتى وإن استطعت إقناع نفسك بأن البقاء في البلد هو انتصار ما لثورة أهلها ولكن…

الثورة تغيرت وتحولت لحرب وفي الحرب لا ينجو من لا يعرف كيف يصوب بندقيته.

ستحمل بندقيتك على أحد الجانبين أو ستكون الضحية لا محال.

“حين يرن البارود، يسقط المتسكعون على أبواب الحانات والمقاهي والأفكار” سمعت هذه الجملة في أحد أفلام الكوبوي الأمريكية.

انتظرت مروان لأكثر من ساعة حيث اضطر المجيء من بيته في بستان القصر لكراج الراموسة على قدميه، لقد استغرق الطريق معه أكثر من ساعة ولم تقنعني كل تبريراته عن التأخير، كنت أشعر برغبته بوداع مدينته على مهل، على عكسي تماما فقد وصلت هنا بسيارة أجرة لم أكلف نفسي عناء النظر من نافذتها، ربما لأنها ليست مدينتي!

أصلا بالناقص منكن بهالوطن…

انتظرنا في الميكروباص لأكثر من نصف ساعة قبل أن يأتي أحد الجنود ليتأكد من أسمائنا ومن بطاقاتنا الشخصية، نظر في وجوهنا واحدا واحدا بحقد غريب:

طالعين لأوروبا يا أوباش…

لااا أجاب الجميع بصوت واحد كأنهم في درس عسكري للنظام المنضم.

كان كل واحد من ركاب الميكرو باص قد اخترع حجة يبرر فيها رحلته لمدينة منبج، لكن الجندي كان واثقا من نية الجميع. 

كِلكِن ما تطلعو عا تركيا يا عراعير… أصلا بالناقص منكن بهالوطن…

كان حرف النون الذي ينهي به كلمة الوطن يخرج مع الرذاذ من أنفه بطريقة تشعر بأنه كان يلفظ كلمة الوطن بقرف ما.

أنهي توزيع البطاقات علينا مع باقة من الشتائم والتهم بطريقة تجعل السامعين يحمدون ربهم ألف مرة لأنه لم يعتقلهم.

في النهاية بالناقص منا بالوطن هكذا قال.

الوطن فقط له ولحملة السلاح أمثاله وهم من يقررون من يستحقهم الوطن ومن يتقيئهم.

يلااا …

صفق الجندي الباب ثم خبطه بكف يده صائحا في السائق لينطلق.

لم يستغرق الأمر طويلا حتى كان الباص يخترق الهضاب شرقي مدينة حلب في طريقه نحو مدينة منبج، كانت الطرقات الإسفلتية مليئة بالحفر من أثر القذائف المتساقطة وكان الباص يقفز كلما سقط في حفرة أو عبر فوق حجارة متناثرة هنا وهناك.

يا أخي والله هون بلاد الإسلام وهي بحاجتنا، هون الدولة الإسلامية بتعطيك حقك بالكامل ما هي متل النظام الكافر اللي كنت عايش عنده ولا هي متل الغرب اللي عم يحارب دينك وإنت رايح لعنده..

وعلى مشارف مدينة الباب بدأ المسلحون بثيابهم السوداء بالظهور، لم يكونوا مختبئين ولا محتمين بأي ساتر، لم تكن المسافة بين حاجز النظام وحاجز الدواعش تمتد لأكثر من كيلومتر واحد.

التفت السائق نحونا و صاح:

يا شباب الله يرضى عليكم ويخليكم اللي معو دخان يرميه هون أو يخبيه بس هو بيتحمل إذا صار شي هو يتحمل مسؤولية حاله، يا شباب هدول ما معهم مزح والله…

كانت وجوه الركاب جميعهم بلون الخوف.

قبل وصولنا للحاجز الترابي على مشارف مدينة الباب بقليل اعترض رجلان بلحى طويلة الباص وافقين في منتصف الطريق بأسلحتهم الرشاشة، فيما وقف اثنان آخران على الباب.

السلام عليكم، قال أحدهم.

وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته، أجابه السائق بصوت لا يخلو من التصنع.

صعد الرجلان الباص و بدأوا بجمع البطاقات الشخصية من الركاب ومن ثم بدأوا ينادون الأسماء واحدا واحدا.

كان كل بحثهم في البداية يتركز على مكان الولادة المكتوب في الهوية الشخصية.

-عم يدوروا إذا معنا علويين، همس مروان في أذني.

– وشو بدو يطالع العلويين معنا، أجبته.

وصل دوري ونزلت من الميكرو باص واقتربت من الرجل صاحب اللحية الكثة، كان يتأمل في بطاقتي الشخصية صامتاً، أخذت أتأمله.

كان رجلا مشدود المنكبين بعضلات بارزة وعينين خضراوتين ، يتدلى الرشاش الروسي على كتفه كأنه لعبة صغيرة، صوته كان يحمل نبرة هادئة.

لماذا تريد الذهاب لأروربا، أنت ما بتعرف انه الهجرة حرام، سألني بهدوء..

أنا ؟! أنا رايح لمنبج أحضر عرس صديقي، أجبته كما كل الناس كانوا يجيبون لينفوا عنهم تهمة الهجرة، أجبته بلغة لم يخف عنه كمية التصنع الذي فيها، لم يجب مباشرة، ناولني الهوية وهو يهز رأسه ثم قال بذات النبرة الهادئة:

يا أخي والله هون بلاد الإسلام وهي بحاجتنا، هون الدولة الإسلامية بتعطيك حقك بالكامل ما هي متل النظام الكافر اللي كنت عايش عنده ولا هي متل الغرب اللي عم يحارب دينك وإنت رايح لعنده..

ارتعبت لما سمعت الدولة الإسلامية لكن حافظت على هدوئي وصمتي.

هون بلادك هي أحق فيك، أنت مسلم وأهلك إلهم حق عليك، للوهلة الأولى كادت النبرة الهادئة تخدعني، كدت أخبره بأن الدولة التي يتكلم عنها ذبحت نصف أخوالي في قرى دير الزور، شيء ما جعلني أشعر بأن هذا الرجل الهادئ يختلف عنهم.

لكن في النهاية تمالكت نفسي:

لا والله متل ما حكيتلك أنا رايح احضر عرس صديقي بمنبح، 

جزء بسيط من الثانية فقط فصل بين الحرف الأخير الذي خرج من فمي واللكمة التي باغتنني على وجهي ورمتني بعد أمتار من مكان وقوفي.

كان الدم ينزل غزيرا من فمي وشفتي ورأسي يدور وعيناي زائغتان، رأيت الرجال يتدافعون حولي وهم يحاولون إبعاده عني، شعرت بحذائه يخترق بطني ومن ثم كان بعض الركاب وكأنهم يتستعطفونه.

حملني مروان مع السائق ووضعوني في الباص، كنت غائبا عن الوعي تقريبا.

رأيته فوق رأسي مجددا.

كان يهدد بإيقاع حد الردة علي على اعتباري كافرا فقط لأنني أقسمت بالله ومن ثم بصق في وجهي وترك الباص، لم أستعد وعيي حتى وصلنا لمدينة منبج.

لقد امتلكت الآن ما يكفي من الأسباب لمغادرة هذا الوطن المليء بالحقد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − أربعة عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى