آناتوميا ديلا ميموريا

يزعم أنصار نوستراداموس أنه تنبأ بأحداث العالم الكبرى من حريق لندن الكبير، إلى الثورة الفرنسية، فصعود نابليون بونابرت وأدولف هتلر، ثم ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية، وبالتأكيد: أحداث الحادي عشر من أيلول، والربيع العربي. لكنه لم يتوقع يوما أن تقول لي صديقة يرموكية تتابع نصوصي: ياه يا خلدون! كم تحب مخيم اليرموك! فأجيبها: أحبه؟ ربما.
– إذن لماذا تكتب عنه؟
– عموما، لا يكتب الواحد بدافع الحب فقط. قد يكتب، هجاء، كراهية، توثيقا، طلبا للشهرة، مصدرا للرزق، تملقا للسلطة… أما بخصوص اليرموك، فأنا أكتب عنه لأقيئه.
– تقيئه؟
– أنا ما وُلدتُ في مخيم اليرموك، ولدت في حي القابون الواقع شمال شرق مركز العاصمة. وترجع القابون إلى عهود الآراميين، ولعل اسمها الأصلي “آبونا” يعني مكان تجمع المياه، وهي إلى ذلك مكان لتجمع فقراء مواطني قطرنا العزيز أيّاً ما كان منبتهم الأصلي ولغتهم ولهجتهم. عشنا في بيت جدي هناك حتى بزغتْ سني الخامسة. لكن هذا مجاز لثوي رديء، فلأقل: حتى بلغتُ السنة الخامسة من عمري. وفي طفولتي مشهد، لعلّه مختلق، يريني مياه “نهر يزيد” صافية صالحة للشرب. ثم انتقل والداي إلى مخيم اليرموك، أقصى جنوبه، خارجه. إداريا، أي بافتراض وجود تنظيم إداري، كان بيتي يقع في “مدينة” الحجر الأسود التابعة لمحافظة ريف دمشق. لكنهم إن قطعوا الكهرباء عن المخيم ــ والحديث هنا طبعا قبل الثورة ــ قطعوها عن بيتنا. وإن قطعوا المياه عن الحجر الأسود، قطعوها عن بيتنا. وكأن الجادة الثالثة من شارع بيت لحم غير موجودة في ملفات المحافظة، منطقة حدودية غير متنازع عليها، بل متبرأ منها. وكان عدد سكان مدينة الحجر الأسود وفق إحصاء عام 2004 يربو على ثمانين ألفا. وكان الحجر كما القابون، تجمعا للفقراء من كل منبت ولغة ولهجة: نوَر، تركمان، فلسطينيون، ونازحون. وكانت كلمة النازحين في قطرنا العزيز تطلق ما قبل اندلاع الثورة على السوريين الذين نزحوا من الجولان إبّان الاحتلال الصهيوني له. ثم صارت بعد الثورة تطلق على معظم أفراد شعبنا الصامد ممن غادروا بيوتهم أو قراهم أو مدنهم بسبب القصف والتدمير الذي كانت تقوم به العصابات الإرهابية.
وكان الحجر كما القابون، تجمعا للفقراء من كل منبت ولغة ولهجة: نوَر، تركمان، فلسطينيون، ونازحون. وكانت كلمة النازحين في قطرنا العزيز تطلق ما قبل اندلاع الثورة على السوريين الذين نزحوا من الجولان إبّان الاحتلال الصهيوني له. ثم صارت بعد الثورة تطلق على معظم أفراد شعبنا الصامد ممن غادروا بيوتهم أو قراهم أو مدنهم بسبب القصف والتدمير الذي كانت تقوم به العصابات الإرهابية.
إذن لم يشهد اليرموك طفولتي الأولى، ثم لما انتقلنا إليه عشت في هامشه، حاشيةِ كتابٍ مهترئ، في عشوائيات مكتظة، يكثر فيها متعاطو العقاقير، ومدخنو الحشيشة، ومعاقرو أردأ أنواع الكحول. وكنت أرى سكان مخيم اليرموك من منظور طبقي: وضعهم الاقتصادي عموما أحسن بكثير من وضع سكان الحجر، المكتبات، شارع لوبية (وهو المقابل اليرموكي لشارع وول ستريت في نيويورك)، محلات الذهب، بيوت معلمي مدارس الأونروا، البنية التحتية، خدمات البلدية… لا أقصد أن مخيم اليرموك كان كوبنهاجن، لكني أقارنه باسوداد الحجر فحسب. يولد الفقير ماركسيّ الرؤية، قبل أن يقنعه سدنة المعبد بأن التفاوت في الأرزاق، والتوزيع غير العادل للثروة، والفقر حتى الأنيميا والسرقة… جميعها قدر رباني، وحكمة إلهية تستعصي على فهمنا البشري المحدود.
الثورة الآن في بداياتها. لم تقصف طائرات الميج مسجد ومدرسة عبد القادر الحسيني بعد. لم ينزح أحد من سكان مخيم اليرموك بعد. لكن كانت هناك اشتباكات في الحجر الأسود بين الثوار وجيش الأسد. في حارتي نفسها كان هناك اشتباكات عنيفة، وبقينا عالقين في بيتنا بشكل كامل ثلاثة أيام متتالية، وسقطت على مبنانا عدة قذائف هاون. ثم هدأت الأمور فجأة مثلما فجأة بدأت. نزلتُ وقطعت المئتين من الأمتار التي تفصل بيتنا عن مشفى فلسطين، الحدِّ شبه الرسمي الذي يفصل الحجر الأسود عن مخيم اليرموك بالخاصّة. كان عالما مختلفا الاختلاف كله. الشارع مزدحم، الأسواق مكتظة، محلات الألبسة والحلويات، وكل أهل اليرموك يتبضعون استعدادا للعيد (لا أذكر أننا كنا صياما في تلك الأيام، لذا أرجح أنه كان عيد الأضحى، أو ربما الحانوكاه).
يومها قعدتُ على رصيف يقابل مشفى فلسطين، وأشعلت سيجارة ونستون أحمر، وجعلت أفكر في معنى الانتماء والحدود. دقائق معدودة فحسب، ثم نفضتُ ذباب التفلسف من رأسي. فالذباب، كما تعلمين، يستسيغ أقذر الفضلات. ثم قلت: إذن غداً، مع أول ضربة عسكرية على المخيم، لن يبقى فيه أحد.
– كيف استطعتَ تخمين هذا؟ أي بعد نظر كان لديك؟
– لا تحسبي أني كنت عميق التفكير أو متضلعا من علم الاجتماع. ولا تظني أني أعرف معنى الانتماء الحقيقي. ولا تخالي أني أعرف الفرق بين الفعل والكَلِم: كلامنا لفظٌ مفيدٌ كَاسْتَقِم. وليست لدي رؤى نبي من أنبياء العهد القديم. بل إني مصاب بحسر في البصر هو ما يجعلني أنتعل نظارة منذ سنتي الجامعية الأولى. لعل كل الأمر يرجع إلى مفعول سيجارة الونستون تلك (تحذير صحي: التدخين سبب رئيس لسرطان وأمراض الرئة وأمراض القلب والشرايين).
ثم كان أن كان النزوح، الهروب الكبير. وتكاثرتْ مثل هامة الجرب صفحات على العالم الأزرق تحمل أسماء من قبيل: ”شباب مخيم اليرموك”، “ثانوية اليرموك للبنين”، “يا يرموك منحبك خيا”، و”الزخم الفلسطيني”. والزخم، وفق الاستخدام اليرموكي له، وصف جامع لخصال المروءة والرجولة، ولا يضيره أن أصله المعجمي يعني خبث الرائحة وإنتانها. وكان كثير من القائمين على هذه الصفحات ممن نزحوا من المخيم إلى المناطق المجاورة “الآمنة”، أو صاروا في حكم المواطنين الأوروبيين، أو شبيحة للنظام يخدمونه بالمعلومات، أو بقوا في اليرموك ليكملوا عملية نهبه. وصرتِ تقرئين فيها عن أشخاص وأحداثٍ وبطولات ومآثرَ وذكرياتٍ كما لو أن اليرموك كان المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون والفارابي ومن حذا حذوهما وهذى هذيهما. وما لن تقرئيه في هذه الصفحات هو شيء من هذا القبيل:
[فلان الفلاني، علم من أعلام مخيم اليرموك. كان من أوائل من غادروه حتى قبل قصف طائرة الميج الشهير. يعرفه القاصي والداني بشفترته، وتسويكه، وموسه الكباس، وقلادة حنظلة، ومداليةٍ هي خريطة الوطن السليب (ما قبل أوسلو). سمع مرة مغنيا يقول بمحكية مصرية: “غريب وجيت للسويس لقيت هنا أهلي”، فظنه يتحدث عن السويد، فألقى عصا لجوئه هناك. ولأنه ربما، أقول: ربما، لم يجد الأهل والدفء والسمك البلطي الذي بشرته به الأغنية ــ وهذا غلط أذنيه لا غلط المغني ــ أصابه ذلك الحنين الساذج المرضيّ إلى حارات المخيم المُزبِلة، محلات الفلافل التي تقتلك رائحة زيتها ودماثة عامليها، معلمي مدارس الأونروا الذين عرّفوه على أولى المعتقلات، أصدقاء مراهقته الذين لقنوه مبادئ الزخامة، مخفر اليرموك حيث لبث فيه أعذب أيامه، ومكاتب فصائله التي رعرعته على الوطنية والفساد.
وأخذ من استكهولمه، أو برلينه، أو أمستردامه، يذكّرنا بكل تلك اللحظات السعيدة الرائعة التي لن تتكرر. وراح ينعى المخيم، أباه الذي مات، أو قضى هو بموته ولم تعد تجوز عليه إلا الرحمة. هنالك تبلورت فلسطينيته، الفلسطينية التي لم تنجح الفصائل التي انتمى إليها بالوراثة في بلورتها. وتذكّر حق العودة، هذه المرة إلى المخيم. وتذكر عاصمتنا، هذه المرة “التي في الشتات”. وتذكُّره هذا ليس من قبيل “عودة الابن الضال” لا سمح الله! إذ هو ليس ضالا، ثم إنه لن يعود. هذا من قبيل أن أكون مريخيا أحتسي مشروبي الأخضر بينما أتضامن مع كوكب الأرض المنكوب.
ومن يدري؟ قد نلحق به قريبا في بلده الجديد، فيعاملنا مثل مهاجرين غير شرعيين، ولا يقاسمنا رغيفا من خبزه أو حيزا من فراشه. فهذا من تجليات الزخم الفلسطيني].
حين يعادي غيرُ اليهود الحركةَ الصهيونية يُتهمون بالعداء للسامية، أما حين يعادي اليهودُ الصهيونيةَ فيقال عنهم: اليهود الكارهون لأنفسهم. كذا اتهموا المفكرة الألمانية الأمريكية (اليهودية) حَنّة أرنت: “قاسية، خبيثة، وكتاباتها لا تنم عن أي حب للشعب اليهودي”. ويبدو أن حنّة لم تنف التهمة: “أنا لا أحب شعبا بشكل جماعي، فأنا لا أحب سوى أصدقائي. والحب الوحيد الذي أعرفه هو حب الأفراد”.
إلا أنها دوما ذاكرة إنسان عادي يحب بيته فحسب، ليس أكثر أو أقل.
كل ما سبق لا يعني أنني أكره مخيم اليرموك، لكني لم أحببه يوما. ثم إن البعد، المسافة “مثل حدادين ممتازين، تصنع من حديد تافه قمرا”. وقد كان اليرموك، قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها، حديدا تافها لبعضنا، ومنجما من الذهب لبعضنا. لكن في اليرموك يقع ــ كان ــ بيتي. وعن بيته كتب عاشق: إن الشمس فيه أجمل منها في غيره. ورغم أن قطر الكون المرصود يمتد مليارات السنين الضوئية، إلا أنه أصغر من بيتي. ولو أتيح لك أن تتفحصي دماغي بالقيافة والعرافة الجاهليتين، أو الفرينولوجيا الزائفة التي سادت القرن التاسع عشر، أو بأحدث تقنيات تصوير الدماغ ودراسته الوظيفية، لن تجدي في قشرتي المخية غير باحات من الألم والحقد والسخرية والذكريات التي صار أحلاها أمرّ من الشاي دون سكّر. وأيّا ما صنّف المشرف على مدونة “سرد” نصوصي تحت بنود: ذاكرة طبيب أو ذاكرة حصار أو ذاكرة حدث أو ذاكرة لجوء… إلا أنها دوما ذاكرة إنسان عادي يحب بيته فحسب، ليس أكثر أو أقل.
حاشية:
تذكر بعض المصادر القديمة، أن المخطوطة الأصلية لهذا النص كانت مكتوبة باللاتينية، لكنها فُقدت. لذا اكتفيتُ بترجمته عن النسخة الإيطالية، محتفظا بالعنوان الإيطالي ذاته الذي يعني: تشريح ذاكرة.
حاشية ثانية:
الصورة من شرفة ما كان منزلي، بزريعته التي كانت خضرتها تصلني بمخيم اليرموك.