جيران في وطن واحد
كانت المرة الوحيدة في حياتي التي زرت فيها مدينة السويداء.
قبل عشر سنين تماما، كنت قد أنهيت امتحانات الفصل الأول في كلية الصحافة في دمشق وأستعد للعودة لمدينة درعا حين فاجأتني هدى بقرارها بالموافقة على الزواج من ابن عمها والسفر لفنزويلا في الصيف القادم.
كان عليّ الحصول على موافقة عائلتي للمبيت عند عائلة غريبة ليلتين كاملتين وكنت أعلم بأنها مهمة شبه مستحيلة ولكن يجب عليّ إقناعهم، خاصةً أن هدى وعائلتها ينوون الاستقرار في فنزويلا نهائيا، كانت أمي متحفظة جدا ولم تتدخل بيني وبين والدي عندما كنت أحدثه على الهاتف برغبتي بالمبيت في السويداء لحضور حفلة العرس.
استغرق الحوار مع والدي وقتا طويلا لم أستطع فيه الحصول على موافقة منه رغم عدم اعتراضه على الفكرة من حيث المبدأ، كنت أعلم بأن أمي كانت تستفزّ لديه كل المخاوف المتخيلة لدفعه لعدم الموافقة، وفي النهاية تمّ بتر الحوار على الهاتف:
“تعالي الآن و بعدين بنتفق”
قطع والدي الحوار بيننا بلهجة صارمة، كنت أعلم تماما بأنها طريقته لترك الباب مفتوحا ولإرضاء أمي الرافضة بأي شكل من الأشكال لبقائي ليلة واحدة عند عائلة أخرى ولو حتى كانت عائلة شقيقها.
“تعشى عند درزي ونام عند يهودي” يقول المثل الشعبي الذي استخدمته أمي لتبرير رفضها السماح لي للمبيت في بيت صديقتي هدى.
كانت سنة واحدة لي في الجامعة كفيلة لأدرك أننا شعب مجزأ بحدود خفية عن الأعين لكنها صلبة جدا في الواقع كلنا نعرفها ونتجاهلها وربما ننتقدها ولكن في النهاية نخضع لها.
كان حوارا صعبا مع أمي، في الحقيقة كان هذا الحوار مع جميع الأوهام المبنية كجدران بين شعوب أمضت مئات السنين تعيش سوية على أرض واحدة ولم تعرف بعضها بعضا وربما لم تتجرأ على هذه المعرفة.
كانت سنة واحدة لي في الجامعة كفيلة لأدرك أننا شعب مجزأ بحدود خفية عن الأعين لكنها صلبة جدا في الواقع كلنا نعرفها ونتجاهلها وربما ننتقدها ولكن في النهاية نخضع لها.
هل سمحوا لك؟ سألتني هدى على الجوال !!
كانت هدى ووالدتها تتراهنان على عدم قدرتي على الحضور، كما عرفت لاحقاً بأن القليل القليل من أهالي درعا يتبادلون الزيارات مع أهالي السويداء.
طبعاً !! ليش لأ؟! أجبتها كاذبة، حتى أمي كانت ستأتي معي لكنها لا تستطيع ترك أخي المريض وحده…
تذكرت هذه الحادثة عندما ذهب وفد من وجهاء حوران للتفاوض مع وفد من السويداء من أجل تبادل المخطوفين لديهم قبل أسابيع قليلة، في المعارك الأخيرة التي اندلعت بين مليشيات من كلا المدينتين على أطراف بلدة القريّا مهد الثورة السورية الكبرى قبل مئة عام.
لا أعرف أحدا من أقاربي وجيراني وأصدقائي لا يتحدث عن صديق له من السويداء وعن كرمه أو عن الطرائف التي كانت تجري معهم هناك، الكل يتحدث عن المساعدات التي كانت تأتي من السويداء في حصار درعا عند بداية الثورة السورية، صحيح أن السويداء لم تنتفض شعبيا دعما لجارتها درعا شأنها شأن بقية المدن الكبرى في سوريا، لكنّ محاميها كانوا أول النخب الذين أطلقوا بيانا واضحا لا لبس فيه يدين عنف النظام، صرخة “يا حيف” كانت النشيد الأول للثورة السورية القادمة من السويداء، بعض شباب السويداء التحق بالجيش الحر مع كتيبة أحرار السهل والجبل وأذكر جيدا العزاء الذي أقامه بعض أهالي مدينة درعا عند استشهاد الضابط المنشق خلدون زين الدين، صحيح أن محتويات العديد من بيوت درعا التي نهبها عناصر النظام والشبيحة كانت تباع في شوارع السويداء بأسعار زهيدة لكن في الوقت نفسه هناك من أحرق متجرين لأنهما يبيعان أغراضا مسروقة وهناك من أحرق شاحنات تحتوي على أثاث مسروق على مداخل السويداء، الكل يدرك بأن السويداء تتعرض لمحاولة ترويض من طرف النظام والروس وحزب الله الذين اجتمعوا ثلاثتهم لإعادة هذه المدينة لولائها التام للنظام، وخصوصا بعد الاحتجاجات الأخيرة على الأوضاع الاجتماعية التي تخللها أو تصدرها ذلك الشعار الأشهر “الشعب الذي يريد إسقاط النظام” ومع ذلك عندما يشكك البعض في انتمائها للثورة يصمت الباقي!!
ما يؤلم في الاشتباكات الأخيرة على مشارف بلدة القريّا ليس فقط أن هذه البلدة تعتبر من رموز التاريخ السوري المشرف ولكن أيضاً لأن الأطراف المشتركة في هذه الاشتباكات هي من الثوار الصادقين سواء من ثوار بصرى الشام أو من رجال الكرامة الذين رفض زعيمهم الشيخ وحيد البلعوس التجنيد الإلزامي لشباب السويداء في الحرب على بقية الشعب السوري ودفع حياته ثمنا لموقفه، بل لأن كل هذه الاشتباكات بلا معنى ولأن الضحايا المخطوفين من الطرفين هم المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة في معظم الحالات.
بالعودة لعرس هدى فقد حضرته، أجرى والدي تسوية بيني وبين أمي تنص على ذهابها معي لحضور العرس على أن يأتي والدي بسيارة عمي ليأخذنا بعد انتهاء العرس، وصلنا ظهرا لمدينة شهبا حيث كان شقيق هدى في انتظارنا ليأخذنا بسيارته لقرية عريقة حيث سيقام العرس وفي الطريق اندهشت أمي عندما علمت بوجود مغارة هناك، لم أر مغارة من قبل قالت أمي، ليصمم خالد شقيق هدى على زيارة المغارة قبل الذهاب للبيت الذي وصلناه متأخرين ساعة حيث كانوا ينتظروننا على الغذاء.
ولأني أمي كانت معي فقد كان استقبالا حافلا.
في البداية تناولنا الغذاء مع أهل العروسين.
لقد كان المليحي الذي أعدته أم هدى مطابقا تماما للمليحي الذي تعده عمتي لكن أقراص الكبة كانت توضع في وسط الطبق على خلاف عاداتنا.
أنتو بتعملوه متلنا قالت أمي، أنتو اللي بتعملوه متلنا ردت أم هدى ضاحكة.
كانت عادات العرس متشابهة تقريبا، أهازيج الفرح متشابهة تقريبا، الوجوه متشابهة تقريبا، فرحة الأم الممزوجة بالحزن وصمت الأب.
كل شيء كان متشابها.
وصل والدي حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا ليأخذنا لكن والد هدى وعمها والد العريس وعدد من الرجال الحاضرين كانوا بالمرصاد.
سوف تبيتون الليلة هنا جميعا، حاول والداي كل أساليبهما وحججهما للتهرب من الدعوة والعودة للبيت لكن لم يكن يجدي أي شيء مع هؤلاء القوم:
“ولو يا عمي مش حلوي بحقنا، عليم الله بنحليق وجوهنا، لا ياخيي” كانوا يتحدثون وكأنهم يرشقون كلامهم دون أي جدوى أو خيار بالرفض.
شعرت بشيء من الزهو عندما وافق والدي في النهاية على المبيت في القرية حتى الصباح.
في اليوم التالي غادرنا الساعة الخامسة مساء، لم يكن هناك خيار بالذهاب قبل الغذاء الذي تخلله حديث قلق عما يجري في مصر وليبيا، كان سؤال قلق على وجوه الجميع بأن ما حصل هناك لن يحصل هنا فسوريا بخير والله حاميها كما قال عم هدى ووالد زوجها.
_ بجد الضيف بيكون أسير المعزب قال أبي ضاحكا و نحن نغادر.
تزوجت هدى قبل اندلاع الثورة بعشرة أيام، ولكنها لم تغادر إلى فنزويلا، لقد التحق عريسها بإحدى الميليشات المقاتلة مع النظام، بقينا على اتصال لفترة قصيرة بعد اندلاع الثورة لكن في النهاية افترقنا.