ذاكرة لجوء

قصة ليس لها عنوان

لازالت صورهم معلقة على الجدار منثورة هنا وهناك، أسمع صدى أصواتهم تتلقفني بكل زاوية من زوايا البيت، تفرض عليّ التذكر وتملأ الفراغ في داخلي، فتأتيني كلماتهم لتعيدني إلى أدق التفاصيل التي كنا نحياها “من يفقد القدرة على الضحك يفقد شيئاً ثميناً”، تمر هذه الجملة في ذاكرتي، حتى يكاد قلبي يرقص فرحاً وطرباً، عندما كانت ابنة أختي بعمر السبعة أعوام ترددها على مسامعنا، حين ترانا أنا وأمها نضحك ملئ أفواهنا على أمر ما أثناء ثرثراتنا اليومية الدائمة، تهطل كلماتها علينا كرذاذ المطر وتتركنا مع وفرة دلالاتها وشحناتها التعبيرية.

بعد سفر زوج أختي إلى بيروت بقصد العمل، ولمتابعة أوراق السفر في السفارة من أجل طلب اللجوء إلى فرنسا، وبحكم عملي القريب من مكان سكنهم، أقمت في منزل أختي، بداية على ألا تتجاوز إقامتي لديهم بضعة أشهر، لكنها طالت لأربع سنوات وطالت معها أيامنا وحكاياتنا المليئة بكل أسباب الحياة.

في عام 2015، فتحت أوربا أبوابها أمام اللاجئين السوريين، الهاربين من الحرب الدائرة في أرضها وجوها، فبات الناس يهاجرون إلى أماكن كانت مجرد حلم بالنسبة لهم بحثاً عن دروب النجاة، لم تكن لديهم أية فكرة عن المكان والطريقة التي سيذهبون فيها، الشيء المهم كان أن يهربوا في أسرع وقت ممكن، تاركين حياتهم وتاريخهم وراء ظهرهم.

وكانت عائلة أختي من هؤلاء الناس الذين قرروا المضي بطريق السفر والبحث عن حياة جديدة، بعيداً عن المناخ الخانق العابق بالعبث والموت، لكنهم كانوا رافضين للسفر بالطريقة التي سافر فيها معظم السوريون عن طريق البحر بقوارب الموت، والتي أضحت تجارة رابحة للمهربين الذين يستغلون الهاربين من الفقر والحروب في بلدانهم.

عندما سافر زوج أختي، كان الحديث يدور بأنها فترة قريبة وسيرسل في طلبهم، بناء على وعود من قبل الذين يساعدونه بتقديم أوراق اللجوء، في حينها كانت أختي حامل في شهرها الثالث، وابنتها بعمر الأربع سنوات، أمضوا الفترة الأولى من سفره بانتظار أي خبر أو أي ضوء باتجاه باب سفرهم وكلهم أمل ورجاء على أن تلد أختي مولودها في فرنسا حيث وجهتهم. لكن الآمال جاءت مخيبة شهر بعد شهر وسنة بعد أخرى.

تدخل أختي وابنتها مرحلة جديدة من حياتهم بعد أن تلد طفلها، مرحلة فيها الكثير من التحديات، إذ غَدَت أماً وأباً في آن واحد وسط قفار شاسعة مأهولة بالخوف والقلق والمجابهة الدائمة مع الآخر، وتتحول إلى باحثة عن درب تسلكه يخفف عنها عبء الواقع الذي وجدت نفسها فيه، واقع كان ولا يزال يزداد تيهاً وضياعاً وفقداناً للهوية.

كنتُ مدركة في حينها للظرف الذي كان يطوقها من جميع الجهات، وشاهدة على أدق التفاصيل التي جعلتني أشاركها الحياة بما فيها من قساوة وحزن وفرح وضحك ولعب، نعم اللعب، كان اللعب طريقتنا الوحيدة لتخطي الزمن، لتزيد من قيمته ومعانيه وكثافته “لولو” ابنتها. هي التي كانت تدير اللعبة وتحركها، خاصة عندما كنا نلعب لعبة “الطميمة”. كان وجودها المشِّع في البيت يزيد من حيويته وطاقته، رافضاً أي كسل أو حزن أو حتى مجرد التفكير في يوم غد، كانت كلماتها تخلق لنا حالة وجودية جديدة لتشغلنا بأي حدث يهمها، كأن نتهيأ في الشهر الثاني من كل سنة، للدخول في أسبوع من التحضيرات والتجهيزات لعيد ميلادها وكأنه الفرح الأخير.

لكن كان هناك ثمة غمامة من الضجر تحوم فوق كل شيء بانتظار أي خبر، وقد زاد الأمر سوءاً أن زوج أختي لا يستطيع العودة إلى سوريا لأسباب أمنية، فباتوا كل سنة يذهبون إليه لمدة لا تتجاوز الأسبوع بعد أن تقوم أختي بتوقيع أوراق ومعاملات في جميع مؤسسات الدولة كي تثبت أنها أم أطفالها وهي الوصية عليهم، ليسمحوا لها باصطحابهم خارج الحدود.

هذا الأسبوع كان تعليقا مؤقتا للألم، ليعودوا بعدها إلى بيتهم ويبدأوا من الصفر في ترتيب حياتهم وأمورهم اليومية، التي لم تتوان فيها أختي ولم تفتر همتها عن تقديم كل شيء تستطيع أن تقدمه من أجل تربية أطفالها بالشكل الذي جعلها تنسى نفسها، كانت تواجه الحياة كما لو أنها مغامرة، فأحياناً تسرق ساعة من يومها كل فترة طويلة للخروج في زيارة صديقة أو للذهاب إلى السوق، لتعيد ترتيب أحلامها الصغيرة والكبيرة.

كانت تزداد الحياة صعوبة في كل سنة تمر، حيث كثرت في حينها التفجيرات والاغتيالات، كما جاء هجوم داعش ودخولهم إلى السويداء في وقت ضاق عليها وعلى أطفالها، فلم تعد تحتمل فيه أي شيء، وكأن الدنيا كلها أغلقت أبوابها أمامهم، فبيتها أصبح ملاذاً للهاربين من القرى التي دخلت عليها داعش، وقد ترتب على هذا الأمر الكثير من الأمور التي جعلتها تأخذ أطفالها وتسافر إلى بيروت لفترة لا تزيد عن العشرة أيام، وفي الوقت ذاته كان هناك أخبار جيدة حول قبول طلبهم في السفارة الفرنسية.

بعد يأس طال سنوات يأتي الخبر العظيم في بداية عام 2019، بقبول طلبهم وتحديد موعدٍ للقائهم في السفارة، ليس ثمة إحساس بالخفة كالذي يساور المرء بعد قهر مخاوف طال أمدها، حتى كادت تلمس السماء بيدها من شدة الفرح.

 فأصبحت أعيش كل ساعة محاولة أن أمتص أكبر قدر ممكن من الذكريات، واستيعاب التفاصيل التي كانت تلزمني في هذا الوقت للدخول في مرحلة قادمة لا أعرف عنها شيء.

كانت مرحلة مهمة كثيراً في حياتي، مرحلة فيها من التعلم أكثر من أي شيء آخر، تعلم الحب والجمال، تعلم الأمومة والطفولة في وقت واحد، كانت تجربة خضناها سوية بقدر من الوعي والوضوح والحقيقة.

“إلى اللقاء يا توأم الروح”، آخر جملة أقولها لأختي وهي تهم بمغادرة بيتها هي وولديها بالصعود إلى السيارة التي ستقلّهم إلى بيروت كي يسافروا عبرها إلى فرنسا.

ربما كانت المرة الأولى التي أعترف فيها لنفسي قبل أن أعترف لها بأنها كانت توأم الروح، المسألة ليست مسألة اعتراف، بقدر ما هي حالة كانت تتملكني دون أن أكترث لها، أو أن أكون على دراية بما كان يختزن داخلها، حالة أضحت تتراكم بمرور الوقت وتؤكد وجودها يومياً بعيداً عن الضجيج الخارجي.

لم تكن عائلة أختي الوحيدة في هذه المأساة التي عاشتها، كثيرة هي العائلات التي تشتت وعانت من الحرب وويلاتها، ولكل منها ظروفها ومآسيها، لكن الأثر الذي تركته أختي وأطفالها عليّ احتاجَ إلى وقت طويل كي أتعايش معه. والآن وبعد مضي سنتين على سفرها، لازالت تجذبنا نداءات الذاكرة إلى الوراء أكثر فأكثر، ولازلنا نحمل الروائح والطعوم ونخبئها في جيبنا كي لا تتلاشى، ومازلنا متشابهات في البداية والمآل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة + تسعة عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى