مرتزقة على لوائح الانتظار
دخلت على أصدقائي المجتمعين في جلسة سمرٍ كعادتهم يتبادلون فيها أطراف الحديث، وأطياف الآمال، ومرارة الواقع. تلك الجلسات التي يفكر فيها واحدهم بصوت عالٍ، أو يكتفي بالحديث عن أي تفصيلٍ يومي مهما صغر، ولا لشيء سوى الترويح عن النفس المثقلة بهموم الحياة وأعبائها.
سألتهم عن حالهم فأجابوا بطريقة جماعية “الحمدلله بخير”، ولكوني أدرك ما تعنيه تلك الجملة كونها مجرد جملة يقولها المرتاح والمهموم، بدأت أسألهم أكثر عن حالهم كلٌ على حدى، لتبدأ الأفواه بالزفير الحار، وتبدأ كلمات القهر بالتداعي والسيلان من بين شفاههم.
وما أن انفتحت قصة البلاد والحرب حتى بدأ كل منهم بالحديث عن عجزه أمامها وما رمته على عاتقه من عبء وتكبيل وموت أقرباء وفقد أحباء. لأدلي بدوري عن الواقع الصعب الذي وصلنا إليه وما تركه من أثرٍ على الوضع الاقتصادي والمعيشي للناس، والذي اضطر الكثيرين على أثره في منطقة كإدلب للانخراط في صفوف تشكيلات عسكرية موالية لتركيا، ليغدوا أولئك بعد أن كان حلمهم بناء سورية جديدة مجرد مقاتلين تابعين لتركيا حتى وإن قررت احتلال جزء من سورية.
وبدأت أستفيض في شرح ماهية المرتزقة وكيف ينظر إليهم، ولكن الغريب في كل ما قلته بهذا الصدد أن الحاضرين كانوا يقابلونه بالابتسامة، حتى تفوه فرزان قائلاً: “إخوتي ذهبوا إلى ليبيا”، وباستغراب تساءلت: “يا رجل خرباني ليبيا، ليش فيها شغل” فقال: “راحوا مع الروس”، وهنا فهمت لما كانت تلك الابتسامة الهادئة على وجوههم.
قلت: “كيف يعني مع الروس”، قال: “مقاتلين في ليبيا مع الروس لصالح الجيش الليبي يعني مع حفتر”.
مع حفتر يعني مرتزقة يا فرزان؟
فقال: “إي مرتزقة مقابل 1000 دولار، ولهم إخوتي ثلاثة أيام وتم إعطائهم 500 دولار لحظة وصولهم إلى مطار حميميم لكي يعطوها إلى عائلاتهم لحين عودتهم”، وأضاف “ماتوا من الجوع هون بدن يروحوا حتى لو مع الشياطين.”
وهنا تحدث أيمن أيضاً عن أشخاص يعرفهم ذهبوا إلى ليبيا، وأضاف إياد: “نعم وعلاء وحازم ذهبوا أيضاً”، وبدأت مسبحة الأسماء تكر دون توقف.
وفي نظرة عاجلة على أسماء الذين ذهبوا أو ينتظرون الذهاب، تبين لي أن معظمهم من الموالين لهذا النظام، وبعضهم قاتل إلى جانبه، وهم مؤيدون له ولبقائه حتى النخاع. والمستهجن كيف لهؤلاء الذين والوا هذا النظام بل وكانوا أحد أدواته القمعية للمظاهرات المعادية له، ويقدسون القيادة الحكيمة، كيف لهم أن يتحول ولاءهم إلى دولة أخرى ويصبحوا مقاتلين تحت رايتها، لتزج بهم كوقود لتحقيق مصالحها وأطماعها، ليس في بلادنا فحسب، بل أينما حلت هذه المصالح والمطامح، لا ريب بأنهم مرتزقة، نعم مرتزقة وبجدارة، بل إنهم أصبحوا يحجزون أماكنهم في صفوف المرتزقة قبل أشهر (وببوسة إيد).
يبدو أننا يجب أن نعي التفكير في بناء ثورة، ليس على هذا النظام وحلفائه فحسب، بل على مثالبنا ومبادئنا التي وصلنا إليها والانحدار في سوية أخلاقنا وقيمنا، وكل تلك القصائد الوطنية التي كنا نهتاج كالثيران حين نغنيها.
ليس هذا السرد للوقائع والأحداث إلا نتاج لردة فعل ناقمة على الواقع التعيس، الذي لم يكن في الحسبان ولم يخطر أصلاً على بال أحد ممن كسروا قيد الديكتاتورية وصدحوا هاتفين للحرية، كنا نبني على ما رأيناه أساس صالح في السوية الأخلاقية لدى أبناء مجتمعنا، كنا نعتقد أن من كان من شعبنا يفزع لمجرد سماعه صوت استغاثة -وهم كثر- هم أهل البناء لأساس صالح للدولة، تولي الأهمية القصوى لكرامة الإنسان وفلاح المجتمع.
أيعقل أن ذلك الإرث العظيم من القيم التي تعلمناها وتربينا على مفاهيمها كان فقاعة وسراب، أم أن الظروف والواقع وقساوة العيش أنتجوا هذه الفئة من السوريين الذين تنكروا لكل ما هو جميل في النفسية السورية، وهنا يستحضرني كلام العم أبو فؤاد الذي لا يزال يرفرف في ذاكرتي وكأنه لحن عذب ليس له مثيل، لشدة سلاسته وغناه بكل حق وخير وجمال، وبساطة مفرداته.
كنا في بدايات سن المراهقة مجموعة من فتية الحي وكان العم أبو فؤاد في العقد السادس من العمر، حينما لاحظ وجودنا بشكل متكرر في ذلك اليوم مقابل سور أرضه، والتي كانت فيها دالية عنب كبيرة يتدلى منها عناقيد عنب يعجب الناظر لكبر حجم حباتها، أما نحن فكان يقطر لعابنا كلما مررنا من جانب تلك الدالية. أحس الشيخ أبو فؤاد ربما بفطرة الفلاح الجبلي أننا كنا ننوي (الغزو) على العنبات، هذا ما كنا نقوله عندما كنا ننوي القيام بذلك العمل، فما كان من الشيخ الوقور إلا ودعانا كل باسمه: “تفضلوا يا شباب قربوا جاي” مع ابتسامة في محياه أزالت كل ريب من أذهاننا، وعندما اقتربنا منه قال: “بدي فزعتكن يا شباب” وأشار بيده المجعدة السمراء إلى الدالية نفسها، وأكمل حديثه “هذان الحجران الكبيران عجزت عن إزاحتهما من تحت الدالية” ولم يكمل كلامه حتى انبرا جميعنا وبحماس “تكرم عمي أبو فؤاد” وكان ذلك الرد تعبير عن حسن نوايانا ودخلنا وبدأنا العمل بهمة عالية. وأبو فؤاد يشجعنا ويصعد على سلم خشبي موضوع تحت الدالية ويقطف أشهى وأكبر عناقيد العنب حتى أصبح العنب المقطوف والموضوع في الصينية يطعم عشرة رجال، وما لبثنا أن انتهينا من إزاحة الأحجار فصاح بنا الرجل الستيني “اتفضلوا شباب” وتحولقنا حوله وبدأنا نأكل العنب الشهي وهو يشرح لنا كم تطلب إنتاج هذه الثمار من تعب وجهد ووقت. وبدأ يقص علينا عواقب التعدي على أملاك الآخرين وأرزاقهم وأرضهم، وفي كل جملة من الوعظ يلتفت إلى أحدنا ويقول “هل تقبل يا فلان أن يدخل أحدهم إلى أرضك ويزحزح حجارتها” فيكون الجواب البديهي “لا عمي” ويكمل جمله وعظه ويقول “هل تقبل يا فلان” ويتوجه لواحد آخر، “أن يدخل أحدهم إلى بيت ويأخذ منه قشة مكنسة” طبعا كلا عمي. وبعد حديث دام حوالي الربع ساعة اختتم أبو فؤاد حديثه بجملة بسيطة لكنها لخصت حديثه ومعناه: “يا عمي اللي بنتف بخبز الناس، الناس بتنتف بخبزو” وهكذا اكتملت الفكرة التي أوصلها الرجل إلينا، ومن حينها نحن مجموعة الفتية وكل الشعب السوري، نعي ما حجم السخط الواقع اجتماعياً على المتعدي، ومما لا شك فيه أن في كل حي أو حارة في بلادي لا بد من وجود نسخة عن أبي فؤاد، بغض النظر عن الاسم، أبو جورج أبو محمود أبو علي، لكن بكل تأكيد هي موجودة ووجودها يعني أننا كلنا نعرف ونعي بمثل هذا الأمر.
لذلك وعند تذكري لتلك الحادثة مع أبو فؤاد، بدأت أفكر أين ذهبت تلك القيم وأين ذهب أولئك الأشخاص الذين ينتمي إليهم أبو فؤاد، كيف وصلنا إلى مرحلة نقبل فيها بالعمل في القتل المأجور، وسرقة الأرزاق، لا وجود لأي مبرر لأولئك المرتزقة وليس لديهم الحق في تشويه صورة السوريين بهذا الشكل، ويجب أن يعرف العالم بأسره أن قلة انحدرت حتى القاع، ليست صورة السوريين وتاريخهم العريق ولا تمثل حتى الغبار العالق على إطار الصورة.
أخرج من الجلسة وأنا حائر الفكر، هل يعقل لكل تاريخ هذه البلاد أن يذهب في بضع سنوات، وننحدر إلى تلك الدرجة، “مرتزقة سوريين” يا إلهي ما هذه الكلمة، حتى أنني أرتبك بقولها كارتباكك حين تقول “فلان مات” إن كان مقرب منك. لكن لا مناص لي من الأمل، نعم الأمل في أن تكون هذه المرحلة ما هي إلا شيء مؤقت وعابر لن يطول، ولا بد أن تعود تلك الأخلاقيات لتظهر وتفرض نفسها على الملأ.