ذاكرة حدث

حين رسموا الحلم

التقيته دغشة الفجر…

تتلفّع رأسه قبّعة معطفه. والكمّامة المفروضة بسبب الكورونا تغطي نصف وجهه، ويزمّ بيديه الاثنتين المعطف السميك إلى صدره.. الجليد يكتسح الأرض بضراوة، والحرارة تسع درجات تحت الصفر.. يمشي بحذرٍ شديدٍ خشية الانزلاق، وتتبعه مجموعة الواردية الليلية، حيث انتهت جولة حراستهم لهذه الليلة في السادسة صباحاً، لنتسلّم منهم- نحن واردية النهار حتى السادسة مساءً- زمام حراسة منجم الفحم.. ولأنّ الوقت لا يسعف للحديث؛ تواعدنا على اللقاء في عطلة نهاية الأسبوع، لنستعيد ذكريات الأيام الخوالي؛ أيام “دمشق”.

“محمد” ابن “درعا البلد”، وصل مدينة “منشنغلادباخ” بعدي بأشهر، هارباً من جحيم الأهوال التي عايشها على مدار السنوات الأربع، قبل أن يتسنّى له الوصول إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا عبر طريق اليونان فالبلقان، ويحط الرحال في ألمانيا، البلد الذي فتح ذراعيه للمهاجرين من جحيم بلادهم، وقدّم لهم السكن والسكينة والأمان، وجمع معظمهم بعائلاتهم بقانون لمّ الشمل.

عرفته في “دمشق” أيام الدراسة في الجامعة، وبعد تخرّجنا في الجامعة لم يتسنَّ لنا التلاقي، لأنه عاد إلى “درعا” وأنا التحقت بالخدمة الإجبارية العسكرية.. هنا، في مدينة “منشنغلادباخ” التقينا عدة مرات متباعدة، وفي كل مرّة كانت ظروف الدراسة ومتابعة الأوضاع الخاصة؛ البحث عن مدارس للأطفال، عن روضة للصغيرة، البحث عن العمل ووووو، تجعلنا في عجلة من أمرنا، ونتواعد على اللقاء.. أما لقاء نهاية الأسبوع هذا فقد فتح الجرح والأمل في آن.

لم نكد نستهلّ جلستنا بالأسئلة العامة، حتى أرجعتنا أغنية سميح شقير “يا حيف”- التي وضعها “محمد” نغمة الرنين لهاتفه النقال- إلى بداية الثورة، حين هتفت حناجر الصبية والفتيان قبل حناجر الكبار «الموت ولا المذلّة»، لتنطلق شرارة الثورة من حيّ “درعا البلد” في مدينة “درعا”.

أوضح لي “محمد” بعض التفاصيل التي كنت أجهلها عن البدايات، ولماذا اعتُمد يوم الخامس عشر من آذار/ مارس عيداً لانطلاق الثورة، مع العلم أن الأمن السياسي اعتقل ثمانية عشر طفلاً من مدرسة “الأربعين” في “درعا البلد”، في السابع والعشرين من شباط/ فبراير 2011، كتبوا على أسوار مدرستهم عبارات: «الشعب يريد إسقاط النظام… إجاك الدور يا دكتور…»، محاكاة لشعارات الربيع العربي التي انطلقت في تونس ومصر وليبيا قبل أشهر.

«أخي “ماجد”، أنا عايشت الحدث ساعةً بساعة، أولاً لأنني صحفيّ، وثانياً لأنني ابن حي “درعا البلد”..

والحقيقة أن كتابة العبارات على أسوار مدرسة “الأربعين” تزامنت ثم تكرّرت مع عبارات مشابهة في أكثر من مدرسة في الريف والمدينة، وبسبب حالة الخوف والترقّب تعامل معها الجميع بطلاء الجدران فوق الكتابة لحظة اكتشافها، في حين قام مدير مدرسة “الأربعين” بإبلاغ الأجهزة الأمنية خوفاً على نفسه، فقامت باعتقال عدد من الأطفال من بيوتهم واحتجزتهم، ثم اعتقلت إخوة بعضهم الأكبر سناً بتهمة تحريض الصغار.

وللحقيقة أيضاً.. أن هؤلاء الصغار، وهم يلعبون ويخطّون على الجدران عباراتهم المناهضة لنظام القمع والسلب وهدر كرامة الإنسان وحريته، كانوا يكتبون بأناملهم الغضة تاريخاً جديداً لسورية حُرّة، ويكسرون بحروفهم حواجز خوف كانت منيعة لعقود طويلة، ويُعلون من شأن الإنسان وكرامته وحريته.

كان تعامل الأمن السياسي مع الأطفال وحشيّاً، وقد التقيت بعضهم بعد خروجهم من الاعتقال، وعلى سبيل المثال، قال لي “أحمد أبا زيد”، أحد الأطفال الذين اقتلعت بعض أظافرهم وأسنانهم في المسلخ الأمني وعمره 14 عاماً:

(صباح يوم الأحد 27 شباط/ فبراير، أيقظتني أمي باكراً لأستعد للذهاب إلى المدرسة، حين توقّفت سيارة أمنٍ في الشارع، واقتحموا البيت كأنهم فرقة مداهمة، ووضعوا القيد في يدي وسحبوني وسط ولولة والدتي وإخوتي، ولم تنفع وسائل أبي الدبلوماسية في التفاهم معهم، فأهانوا والدي ووالدتي وزعقوا بأخوتي، وهددوا الجميع بالسلاح إن هم اقتربوا، وحشروني في سيارة كبيرة مع بعض زملائي الذين اعتقلوهم قبلي.

عند وصولنا إلى فرع الأمن السياسي- الذي عرفته بعد خروجي منه، فلم أكن أعرفه من قبل- كانت الأرجل تركلنا من كل جهة، مثل كرة بين لاعبين محترفين، والشتائم التي لم أسمع بها من قبل كان أكثرهم يطلقها في وجوهنا.. حشرونا في غرفة شبه مظلمة كأنها البراد، أخذنا نرتجف ونبكي، حتى جاء أحد السجانين وهددنا بأن من يبكي سأضعه على الدولاب- وسيلة التعذيب الأشهر في المعتقلات السورية- وكنت الأقرب إليه، فسحبني من يدي إلى الغرفة المجاورة، وبحْلَقَ في وجهي كضبعٍ مرعب وصاح: سأقلع عينيك وأقطع يديك إن لم تعترف.. فقلت له: والله لا أعرف شيئاً.. فانهال عليّ بالكرباج، وساعده ثلاثة مثله ليضعوني في الدولاب، لكن جسمي الصغير أفلت من حلقة الدولاب، فربطوا قدمي بحبل يتدلى من السقف وراحوا يضربونني بالكرابيج حتى أغمي علي.. أما قلع الأظافر والأسنان بالبنسة فيجعلك تعترف بما لم تفعله طوال حياتك).

رئيس فرع الأمن السياسي العميد “عاطف نجيب”، ابن خالة “بشار الأسد”، هو من أمر باعتقال الأطفال، ولم تفلح معه كل محاولات ورجاءات أهاليهم للإفراج عنهم، ما دفع بهم للاستعانة بوجهاء المحافظة ليتوسّطوا عنده، وبعد أيام من الاتصالات والمحاولات التقى “عاطف نجيب” وفد الوجهاء، بالطبع رفض طلبهم بالإفراج عن الأطفال، وقال لهم نقلاً عن أحد الوجهاء: (انسوا أولادكم واجعلوا نساءكم تحمل وتخلف بدلاً عنهم، وإذا لم تستطيعوا ذلك فأتوا بهنّ إلينا ونحن نفعل!!!).

عاطفٌ يا بن نجيبٍ أيّ هُزءٍ    وزنى الأمّ على الصدر وسامُ

ضدّ إسميكَ فلا عطفٌ وإنسٌ    وابن كلبٍ؟ لا.. فللكلب مقامُ…

رفضت الأجهزة الأمنية الإفراج عن الأطفال، الذين تراوحت أعمارهم بين 12 و 15 عاماً، فاجتمع الوجهاء والناشطون وأهالي الأطفال يوم الثلاثاء 15 آذار/ مارس، وأعلنوا عن الاعتصام في “ساحة المرجة” في “دمشق” أمام وزارة الداخلية (القديمة)، وكان الاعتصام في اليوم التالي الأربعاء، وشارك فيه ناشطون من مختلف المحافظات السورية، وناشطون من حقوق الإنسان، وبعض أهالي المعتقلين السابقين في سجون النظام.. إلا أن الأجهزة الأمنية فرّقت الاعتصام بالقوة، واعتقلت 12 شخصاً بينهم معارضون سياسيون وبعض أهالي الأطفال المعتقلين.

وفيما بعد اعتبر يوم الاجتماع الذي تقرر فيه الاعتصام- يوم 15 آذار/ مارس- يوماً لعيد الثورة وانطلاقتها، حيث انتفض حي “درعا البلد” يوم الجمعة 18 آذار/ مارس، وانتفضت معه سورية كلها غضباً، ليكون ما بعد هذا التاريخ ليس كما قبله، ليس في سورية فحسب، بل في المنطقة كلها.

ومن باب العلم بالأمور، فإن بعض المعتقلين من الأطفال لم يفرج عنهم، وحتى اليوم لا يُعرف مصيرهم، منهم “أحمد سامي أبا زيد” ابن عم “أحمد أبا زيد” الذي روى لي ما حدث معه، ويعتقد أن ابن عمه قضى تحت التعذيب.. في حين التحق معظمهم بالجيش الحر، مثل “أكرم وبشير أبا زيد” اللذين استشهدا في حي “الأربعين” عام 2012، في معارك ضد قوات النظام التي اجتاحت الحي ودمّرته ونهبته.

وما زلت أذكر أننا في المظاهرات اللاحقة، أواخر آذار كنا نردد بعض أبيات قصيدتكَ التي كتبتها عن “عاطف نجيب”:

طعنة الغدر اكتوى منها جبيني والدم المسفوح في درعا حرامُ

عاطفٌ يا بن نجيبٍ أيّ هُزءٍ    وزنى الأمّ على الصدر وسامُ

ضدّ إسميكَ فلا عطفٌ وإنسٌ    وابن كلبٍ؟ لا.. فللكلب مقامُ…

ويبقى الأمل يحدونا بأن نعود ونبني سورية حرة كريمة ديمقراطية، تحترم جميع أبنائها وتعاملهم كبشرٍ، لا مكان فيها للظلم والاستعباد والاسترزاق».

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

16 − إحدى عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى