طابور جامعي

يقال أن رواد الفضاء يستطيعون مشاهدة سور الصين العظيم من الأقمار الصناعية بالعين المجردة! لكن رغم كل التكنولوجيا التي وصلتها البشرية، ورغم كل الضخ الإعلامي، ورغم إقحام صور المآسي السورية في عيون العالم ومؤسساته طوال عشر سنوات؛ نجد أن هناك من يتعامى عن رؤية طابور الخبز العظيم، والبنزين والمازوت والغاز وكرتونة المعونات والتجنيد وجواز السفر.. بلادي صارت طوابيرا يقارب طولها سور الصين.. طوابير تتألم.
لم يكن لزميلي التركي عندما أخبرته مسرورا أني قد سجلت في الجامعة ردة فعل تذكر؛ قال لي فقط: “لقد سررت!”، في الواقع لن يصدق كم كنت أنا المسرور لأني أنهيت التسجيل بهذه السرعة؛ إنها أسرع مرة في حياتي أسجل فيها في الجامعة، كانت ولا بالأحلام! لم تثلج صدري ردة فعله، فبحثت عن سوريّ لأخبره عن خطوات معاملة التسجيل، وكم كانت سهلة وبسيطة، لأنه سيفهمني بالتأكيد، عندها كلمت صديقي، فصمت طويلا، ولما أجاب قال: “لا تخبر أحدا حتى لا تصاب بالعين!”، غيره شكا طويلا شقاءه وبؤسه وروى لي مسلسلات عن مغامراته فترة التسجيل الجامعي كل عام في سورية.. وهو ذات السبب الذي دفعني للاندهاش.
قبل التسجيل كنت أزن على رأس زميلي لأستفهم منه عن الأوراق المطلوبة، وهو يقول باندهاش لا أدري!؛ فسردت عليه الأوراق التي أحضرتها معي، حتى أني أحضرت صورا شخصية، ولكنه بقي صامتا وينظر إلي ولا توجد على وجهه أية ملامح أبدا! ربما تعارضت ملامح الاستغراب بملامح الاستغباء بملامح الشفقة! فأنتجت وجها دون ملامح.
حين دخلتُ إلى غرفة التسجيل، طلبت مني الموظفة هويتي الجامعية، مررتها لها وبقيت واقفا وبيدي مصنف من مجموعة أوراق تخص الجامعة، وعلى استعداد لمناولتها أي ورقة تريدها، بعد دقيقة قالت لي: “تمام لقد سَجَلّتُكَ، راجع المشرف العلمي لتختاروا الدروس!”، بقيت مصدوما لثانية غير مصدق! وبحكم العادة فإن أول ورقة نطلبها في سورية بعد التسجيل هي مصدقة الدوام، وغالبا السبب من أجل تأجيل خدمة العلم، أما أنا فطلبتها حتى أصدق أنها سجلتني..
– من فضلك هل يمكن لي أن أحصل على مصدقة دوام؟
– طبعا لماذا تريدها؟
– أريد أن أحتفظ بها فقط!
نظرت إلي باستغراب شديد، ثم أعطتني ورقة بعد أقل من دقيقتين!
– اختمها من الغرفة المجاورة!
سجلت وحصلت على مصدقة دوام في ثلاث دقائق؛ خرجت غير مصدق ما جرى، بل ربما سعيد، وقلت لزميلي باستغراب: “سجلت!” فكان ذاك الجواب الغريب جدا بالنسبة لي! لكنه كان بالنسبة له أمر عادي لا يستدعي أي رد فعل، لأنه اعتاد شأن كل طلاب تركيا التسجيل بهذه البساطة.
أما نحن فقد اعتدنا في جامعاتنا العريقة على قتل الوقت، الوقت ليس له قيمة فينا، والغاية من قتل الوقت هو قتل الروح، روح الطلبة، روح المستقبل، روح التجديد الذي يهدد القصر الجمهوري. يمكن للنازيين أخذ دورس في طرق القضاء على روح الشعب لأنهم لا يعرفوها، فهم ارتقوا بشعبهم وبلغوا بهم عنان السماء، ولم يعرفوا كيف يكسروا روح بلدهم؛ على عكسنا. يستنفر الطلبة أياما في طوابير التسجيل، وقبل الحصول على مصدقة الدوام من كوة التسجيل، عليهم الوقوف على طابور التبرع بالدم، وطابور الدفع والطوابع والأوراق والمصدقة والتصديق.. ويتكلفوا أثمانا دون طائل، والأهم الوقت والضغط النفسي. وبينما تلجأ الدول الحديثة قاطبة إلى الاستعانة بالتكنولوجيا في سبيل راحة مواطنيها وتوفير الوقت، نجدنا ما زلنا في جيل الورقيات وهي التوصية الأمنية التي تتبع لها كل مؤسسات الدولة!
كلمتني إحدى أساتذة الجامعة، تسألني عن الوقت الذي يناسبني لنقوم بدروسنا! كان هاتفها كما الصفعة الحضارية في وجهي وأنا ابن حضارة تمتد في التاريخ عشرات آلاف السنين.. ضمني أستاذ آخر إلى مجموعة على الواتساب ليستفسر عن الوقت المناسب والطريقة الأفضل التي نراها لنجري دروسنا! إحدى الأساتذة كانت تنادي طالبة لديها بكلمة “أستاذتي” احتراما لها كونها معلمة مدرسة ابتدائية.. بقيت مشدوها من احترامهم للطالب أسبوعا، وأحس بشرخ اجتماعي وحضاري وثقافي مع كل تاريخي الأكاديمي؛ وأقارن بين الطرق التي كانت جامعاتنا تعاملنا بها وبين طرق جامعاتهم في التعامل!
تذكرت لقائي مع باحثة أنثروبولوجية سويدية أوائل هذا القرن، كنت أنتقد بشدة التعليم العالي السوري واتحاد الطلبة والوضع السيء للطلاب وسوء المرافق الجامعية، قالت لي جملة واحدة: “لكن ذلك مكلف” صمتّ وأحسست بأنها جملة منطقية! وبقيت مقتنع بها مع القليل من الشكوك حول سبب تواجد بعض مقرات الأمن بالقرب من الجامعات! بعد سنوات عرفت مغزى جملتها، فكلفة البراميل والصواريخ والعتاد الذي أُسقط على سوريا خلال أحداثها كان كفيل بإنشاء جامعة في كل بلدة! كانت الكلفة من نوع آخر “الكرسي”. حين دخلت جامعتي التركية قيل لي عليك انتظار الحافلة فالطريق طويل إلى كليتك! صعدت الحافلة ولاحظت أن أحدا لم يدفع نقودا لأن البلدية تتكفل بتنقل الطلاب مجانا داخل الحرم الجامعي! لقد تم إنشاء الجامعة على “جبل!” بمساحة ملعب كرة القدم مع مدرجات تتسع لآلاف المتفرجين في داخلها مع النادي الرياضي الذي يضم حقلا لرمي السهام وملاعب تنس وصالات رياضية ومسابح، توجد تخصصات متقدمة جدا ومستحدثة مع كل المخابر وتجهيزاتها اللازمة! الانترنت مجاني للطلاب، يدفع الطالب ثمن وجبة غداء ممتازة وتحت اشراف خبيرة تغذية وصحة ومراقبي نظافة وفي صالات مجهزة للطلاب أقل من ثلث القيمة. وفي الحافلات هناك خصم على تكلفة تنقل الطالب مغطاة من البلدية؛ وفي بعض الولايات التنقل والوجبات مجانية للطلاب! وعند التنقل بين الولايات على نقاط العبور والتفتيش، يكفي أن تخرج لهم البطاقة الجامعية حتى يعاملك رجال الأمن والشرطة وكأنك قائدهم!
إنها السنة العاشرة على الثورة، من كان في نهاية الابتدائية حين قدم إلى هنا بات الآن في الجامعة؛ هؤلاء الطلبة لم تعد سورية تعني لهم الكثير، يعرفّون بالسوريين لكن الحقيقة أن لغتهم التركية عموما باتت أقوى من العربية؛ ويمثل لهم الرئيس التركي رئيس بلدهم الذي يحبوه؛ نشر موقع الطلبة السوريين في تركيا على الإنترنت صورة لتركيا وسوريا مندمجتين في علم واحد، هو العلم التركي، كانت التعليقات التي وصلت إلى الآلاف من الطلبة مؤيدة لضم تركيا لسورية! إلى أين سيقودنا هذا الوضع؟ لا يحتفل الطلبة هنا بعيد المعلم السوري، بل بعيد المعلم التركي، هم لا يعرفوا عن عيد المعلم السوري أي شيء بل لا يعني لهم؛ راسلت الكثير من اللجان الاتحادية بهذا الخصوص لكن أحدا لم يجب. انتمائهم وولائهم الأول للدين ولتركيا ولرئيس الجمهورية التركية، رغم أن كل الميزات التي حصلوا عليها في هذا البلد كانت بسبب أنهم سوريون، لكنهم لا يعيروا لذلك اهتماما.
في يوم من الأيام ذهبت إلى مقهى البلدية لأقرأ بعض الكتب وأدرس، فبدا أن نُدُلَ المقهى يتلصصوا على كتبي وأوراقي! لم أعرهم اهتمامي؛ وحين أنهيت القراءة وهممت بالمغادرة طلبت الفاتورة، فأتت مع حسم! وحين سألتهم لما؟ أجابوني “لأنك طالب”.