رسائل عن الحلم والكرامة

صديقي العزيز الحكيم أبو الخلود ( و أيُّ خلود ! )
دعني أعترف لك الآن يا صديقي: إنني امرؤٌ لا يتسم بالواقعية، بل إن شئت فقل أنني أعيش في الأحلام أو الأوهام، وماذا علي إن قلت ذلك؟
أليس كل امرئٍ طبيبا لنفسه ؟، أليست الحمية رأس الدواء؟ وأنا امرؤ خرج من مجاعتين عظيمتين و حميتين شديدتين مترعا بالدواء .
دعني أتكلم! فصمت الطبيب أشد وطأة من كلامه على أي حال.
الواقعية أتت من الواقع، و هو ما يقع عليك، سواء عرفت أو لم تعرف أو لم تعترف بمن أوقعه، هو واقع على أي حال، و إن ساءت حظوظك فهو واقع عليك وبك، و حينها تعال إلى مخيمنا لنفكر.
جلست مرة في المسجد أستمع لخطبة الجمعة، التي أجهد بها الخطيب نفسه كي يختار ما استعوص من كلام العرب على الفهم و ما استغلق على عقول الناس، ليأخذ قبسا من سطوة اللغة و يظهر سدانته على الجنة، فسدانته على النار لا مجال فيها للجدال، فقال فيما قال:
إن من تسول له نفسه أن يفكر بالطعن في المجاهدين فلسوف ……!
لست أذكر الوعد أو الوعيد إذ أن لي عادة سيئة، و هي النوم في غير مظان النوم، و لست أظن الخطيب يفقه ما يقول، ولا يعني رقابة مضاعفة على القلوب و العقول، فأي شرطة أو عسس يمكنها أن تعرف ما تسوله النفس لصاحبها أن يفكر؟ و لكنها لغة و المراد هو المفهوم وإن تعذر وصله بالمنطوق لا بأس فالمراد هنا حفظ الحقوق، و إن كان الجاحظ قد كره أن يُسكت عن فاحش اللغة و بذيئها، كونها جزءا من اللغة و تصف معنىً بلفظٍ متواضعٍ عليه بين البشر فلا بأس على خطيبنا، فهو من فضالة من بقي من الخطباء فجلهم كان قد قنع من السلامة بالإياب، إذن فلنقتله بسيف الحقيقة و لنرحمه بسيف اللغة!
و اقنع بالواقع !
ستسأل- وحق لك ذلك – ما الذي يدعوني وأنا الانسان المترحل والمكلف فوق ذلك بمهمة أن أذكر لك هذا ؟
أقول
شاع فيما شاع بين الناس من شعارات و هتافات، أشياء تعرف منها و تنكر، مقولات ينقض بعضها بعضا، ينبي بعضها عن شيء و يخفي بعضها أشياء، و لكنها لغة، و الأصل بها عندي أن تكون حجَّابة، تطاوعك كيفما شئت كما الذهب، ثمين بذاته و خواصه كالطرق و السحب تجعله قادرا على تذهيب كل شيء، بما في ذلك الهراء.
قيل فيما قيل: تجرأنا على الحلم، و لن نندم على الكرامة!
يضم هذا النسق اللغوي كلمات جميلة بذاتها -كما نحن افذاذ بذاتنا – و لكنها تجتمع على نحو غريب لتفضي إلى معنىً مبهم – كما نحن إذ اجتمعنا- .
أقول إن صح أن خطيب مسجدنا يريد -و هو الخطيب المفوه- أن يفرض رقابة على الذات المسولة التي تفضي إلى الذات المفكرة فيجوز أن الإنسان يحتاج جرأة كي يحلم، و لكن هل كنا لا نجرؤ حتى على الحلم و فجأة إذ بنا نفعلها؟
هل الانسان في الكرامة على الخيار، فإما أن يأخذ او يترك؟ و هل للندم مظنة وجود في اختيار فطري كهذا لا هو بحاجة برهان و لا يأتمر المرء به بأمر سلطان؟هل الأمر صعب لهذا الحد؟
أم أنهم قد جعلوه صعبا؟ و هل الأصح أن نسأل: ماذا فعلنا بأنفسنا؟ أو يفضل أن نسأل ماذا فعلوا بنا؟
ها قد عدتُ للأغاليط و سأثير علي حفيظة أهل الفلسفة و الكلام، ليقال لي في البداية يا عزيزي اطرق الباب بشكل صحيح ليفتح لك بابتسامة، واسأل الأسئلة الصحيحة كي تحصل على ما يرضيك.
من نحن؟
في الحقيقة هذا سؤال عظيم:
من نحن؟؟
أنتظر منك الجواب.
صديقك المشتاق: أنور محمد القاسمي
ألمانيا
صاح!
لا أخفيك أن تشظيا أصابني من رسالتك المتشظية فجعلني أسألني: ماذا يريد أن يقول؟ ولا أخفيك أيضا أن سرورا باغتني حين تلمست جوهرا أو بعض جوهر منها، فأكد لي أنه لا يفهم الزجاج المنحطم شيء مثلما يفهمه زجاج منحطم مثله. ثم قلت: بالضبط! هذا ما يريده أنور محمد القاسمي: ماذا أريد أن أقول حين أقول ما أقول؟ وبعبارة أقل عواصة وأقرب إلى أسلوب الفلاسفة: ما معنى جملة ما؟. إذن هي سؤال عن المعنى، وما أصعبه من سؤال! وإن كان قسط كبير من صعوبة الأسئلة لا يكمن فيها ذاتها بقدر ما يكمن في الإجابة عنها. الجواب هو الصعب في حقيقة الأمر، أما الأسئلة، ولنستعر تعبيرا جاحظيا، فمطروحة على الطرقات.
“إن من تسول له نفسه أن يفكر…”
والعجيب في هذه الجملة ليس منطقها الإقصائي، فنحن زرع أنظمة مستبدة وسلطات تراتبية لا تسمح بالتغريد خارج السرب أو على تويتر، معتادون على الإقصاء والتكفير والتخوين وكمّ الأفواه حتى الاختناق. أقول: العجيب فيها أنها لا تجرم حرية التعبير والتجمهر وتشكيل الأحزاب والنقد وسوى ذلك من أمور يقنعوننا أنها ترف برجوازي وثقافة غربية رأسمالية غريبة على مجتمعاتنا وخصوصيتنا الثقافية، بل هي تجرم فعل التفكير نفسه وإن بقي مجرد أفكار تختمر في رأسك حتى تلتهم دماغك. ومن له هذه السطوة؟ وأي جهاز استخبارات يقدر على ذلك؟ قد تقول: لا أحد. لكني سأسألك فورا: أهذا يجعلها جملة عديمة المعنى؟ مجرد لغة؟
“تجرأنا على الحلم، ولن نندم على الكرامة”
ومجددا: هل يتطلب الحلم جرأة؟ أليس مثله مثل التفكير فعلا عفويا كما أنك تتنفس ويخفق قلبك؟ ومن له رقابة على الأحلام؟ (وإن كانت الإجابة عن السؤال الأخير رهنا بالتطور التكنولوجي). ومجددا: أليس الندم شعورا لا فعلا؟ وهل المشاعر تتولد بفعل إرادي وقرار واع مثلما حين تذهب لشراء جريدة أو لتسليم نفسك إلى أقرب فرع مخابرات تكفيرا عن إضعافك الشعور القومي وتوهينك عزيمة الأمة؟ ها أنت إذن ستنقلنا من فلسفة اللغة والمعنى، إلى فلسفة العقل والوعي. ولأن الأمر ليس بأهون، صرتَ، وصرتُ معك، كالمستجير بعمرو عند كربته.
وما العمل إذن؟
لنقم بحيلة ما، تماما كما حين تستعصي عليك معادلة مثلثية ملأى بالجيوب وجيوب التمام والظلال وأشباه الظلال، فتقول لقلمك: أضف العدد 1 إلى طرفي المعادلة. ثم: فوالا voila! هي ذي قبعة الساحر لا تخلو من أرنب أو اثنين.
والحيلة لا بد أن تنبع من فهم عميق للمشكلة. والمشكلة هنا أننا نركز على الكيفية التي يقول بها قائل ما أحدَ أقواله، أي على الطريقة التي صاغ بها جملته، لكننا نهمل السؤال الجوهري: ماذا يعني؟ ماذا يقصد؟ ماذا يريد حقا أن يقول؟
وقد لا تبدو هذه الحيلة تطورا كبيرا، لكن حنانيك قليلا! أعلم أنك تعلم أننا نعلم أن الجرأة على الحلم لا تعني الشجاعة على رؤية ما يرى النائم، بل ما يراه المستيقظ وهو بكامل وعيه وصحوه. فهل يجرؤ أبو الخلود مثلا على أن يحلم بأنه أستاذ كبير في الشطرنج؟ أقول لك: لا! ليس لأنه لا يتمنى ذلك، بل لأنه لا يجرؤ على مجرد التفكير بالجهد والأعباء والكلفة الذي يتطلبه حلم مثل هذا الحلم. وقد كنا نتمنى -ولا أقول: نحلم- الحرية والكرامة، لكن من منا كان مستعدا لدفع الثمن؟ ثم تجرأنا على الحلم، بعضنا على الأقل، ودفعنا الثمن، بعضنا على الأقل. ثم مثل أي تاجر فتح دفتر حساباته آخر العام، حان موعد تلك الساعة الشهيرة: حساب الربح والخسارة. ماذا جنينا من هذا الحلم؟ الانتهازيون، الرماديون، من في قلوبهم مرض، من في عيونهم رمد، من يظن الحياة سهلة أو كن فتكون، من يعبدون الحق على حرف، من سيماهم في وجوههم من أكل السحت… سيقولون: كنا عايشين. سواهم، لن يندم على الكرامة. وهل الندامة فعل إرادي؟ أن أقرر أني غير نادم أو أنني لن أندم إنما يعني أنني مستعد لتحمل نتيجة أفعالي. هذا هو المعيار. وبتعبير موجز: معنى القول هو الفعل. ولست بحاجة أن تكون ماركسيا لتردد مع الماركسيين: الممارسة معيار النظرية، ولا منطقيا وضعيا لتقرر مع المناطقة الوضعيين: معنى الجملة هو النتيجة المترتبة عليها. ولا عالم نفس سلوكيا يلغي الشعور فيقول لزوجته بعد جماع: كانت التجربة مذهلة بالنسبة لك فكيف كانت بالنسبة لي؟ يكفي أن تستخدم الفطرة السليمة أو الحس المشترك أو بادي الرأي أو بادئه لتدرك أن ما كل قول يعوّل عليه، فالمتكلمون كثر، والعبرة بالأفعال. ووفق السيد المسيح: من ثمارهم تعرفونهم. وفي القرآن الكريم: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة. بل وفق هذا المعيار، لن يكون أن تقول تعقيبا على مقالة: ماذا يريد حقا أن يقول؟ بمثل دقة أن تقول: ماذا يريد أن يفعل؟ وبذا ستفهم ما يعنيه خطيب المسجد من تجريمه التفكير، وما يعنيه قائلنا من امتداحه حياتنا الماضية أو من احتضانه مرارة الكرامة.
أبو الخلود / سوريا