صارت تسمى فلسطين
عدة أيام مضت على بداية التصعيد في فلسطين، وأنا أرقب وأتابع ما يحدث، دون أن أشعر حتى اللحظة بأي فارقٍ عما اعتدت على سماعه ومشاهدته حول القضية السورية. قصفٌ هنا ومظاهرات هناك وإضرابات واعتقالات، أو باختصار شعبٌ يريد حريته وآلة قمعٍ تريد روحه.
هي حلقة جديدة من المسلسل ذاته، مسلسل قضيتنا السورية لكن بنكهةٍ فلسطينية هذه المرة. وليس من المصادفة أن يقفز إلى ذاكرتي شعارٌ طالما هتفه السوريون في مظاهراتهم “فلسطيني وسوري واحد”. ذاك الشعار الذي كان يعبِّر عن وحدة المصير والقهر والقمع والتهجير وكأننا نواسي بعضنا البعض بأننا نتشارك المصيبة سويةً.
وليس من المصادفة أن يكون أشهر أفرع الأمن القامعة للسوريين اسمه فرع فلسطين، وكأن فلسطين رمزاً مكثفاً للمأساة، ولغياهب السجون. وحده الأمن السوري من أدرك رمزيتها فسمى فرعه باسمها، وكان قمعه باسم القضية رمزاً لمركزيتها في واقعنا السوري.
منذ بداية القصف الإسرائيلي لغزة، وأنا أرقب المجازر المتتالية من جهة، والدبكات المتتالية في المحافظات السورية من أجل الانتخابات الرئاسية من جهةٍ أخرى. بطريقةٍ تشعرك بأن هذه الأنظمة لا تعير اهتماماً لفلسطين إلا بقدر ما يخدمها ذلك، والآن ها هي منشغلة بالانتخابات الرئاسية وأعراسها، فلا داعي للحديث عن فلسطين. فتحقيق النصر بإجراء الانتخابات يكفي لقهر العدو وكيده مهما حدث للفلسطنيين في غزة.
وللمفارقة بأن التهجير القائم بحق الفلسطنيين في حي الشيخ جراح، والذي أشعل فتيل المعركة الجديدة، رافقه حدثٌ مماثل في سورية، حيث قام النظام بتهجير عدة عائلات من قرية أم باطنة لكن دون أن يأخذ ذلك الأمر حيزاً من الإعلام، ودون أن يشعل فتيل معركة أو حتى بلبلة لدى السوريين، وكأن السوري اعتاد على الصفعات إلى درجة التعايش معها.
أذكر أنه في السنوات الأخيرة تحوَّلت القضية الفلسطينية إلى قضية منفِّرة لدى الكثيرين، فقد باتت الغالبية من أصدقائي وصديقاتي يعتبرون أنها معزوفة قديمة لا جديد فيها ولن يطرأ أي جديد عليها، وأن أصحابها أنفسهم قد نسوها وعلينا أن ننساها نحن أيضاً، خاصة وأن حلها بات حلماً، والمقاومة والتحرير شبه مستحيل.
وكأن كل ذلك التاريخ من المجازر والانتهاكات والتهجير، بحق أجيال وأجيال، من السهل رميه هكذا في أقرب سلة مهملاتٍ كما ترمي أغراضاً قديمة وجدتها صدفةً في سقيفة منزلك، وأنت تضحك من احتفاظك بها إلى هذا الحين.
لكن وللمفارقة فإن القضية الفلسطينية لن تبقى وحدها المنفِّرة، بل ستجلس إلى جانبها القضية السورية، حيث ستتقاسمان المكان على رف القضايا الميؤوس منها، كما يفعل ضباط الشرطة مع القضية المجهولة المجرم، فيرمونها في سجلات “ضد مجهول”.
ليس من المصادفة أيضاً أن أتذكر يوم كنت في المدرسة حين غزت أميركا العراق، حينها غضبنا كثيراً وشعرنا أنا وصديقاتي في الثانوية بأن علينا أن نفعل شيئاً ونعبر عن غضبنا واستنكارنا، فمن غير المعقول أن يمر عدوان على بلدٍ عربي نشعر بامتدادنا فيه ودون أن نستنكر ذلك، فقررنا التوجه لمدير المدرسة والطلب منه بأن نخرج في مظاهرة تشجب العدوان الأميركي على العراق. فما كان به إلا أن شجبنا نحن، ووبخنا على تفكيرنا العشوائي على حد قوله، لأن هذه الأمور بيد السلطة وهي من تقرر فيها، وأن مبادرتنا هذه دليل انفلات ولا عقلانية وعدم نضج. ليدعونا ويدعو الجميع هو ذاته بعد يومين للمشاركة وأن ذلك يعني الالتزام والعقلانية والنضج بقضايا الأمة، بعد أن جاءه القرار من الأعلى بضرورة الخروج في مسيرة مناهضة للعدوان الأميركي.
تيقنا حينها أنا وصديقاتي بأن ليس المطلوب هو مناهضة العدو ومناصرة المظلومين، بل المطلوب أن نمشي كما تتطلب توجهات السلطة، وأن نعتاد على ذلك، دون أن نفكر مجرد تفكير بأن نأخذ زمام المبادرة عنها حتى لو كنا سنحرر فلسطين أو العراق بمبادرتنا. فإن أخذنا زمام المبادرة اليوم في شجب العدوان الأميركي قد نتطاول غداً على شجب التغول الأمني لا سمح الله.
دخلت إلى الجامعة لأدرك حينها أبعاداً جديدة لرفض المدير مبادرتنا تلك، لأكتشف أن القضية الفلسطينية أيضاً تأتي في سياق الصفقات والشد والرخي مع العدو أو مع الحلفاء، لأتعرف أكثر على أصدقاء وصديقات فلسطنيين وفلسطينيات، وألحظ التيارات والاختلافات ومن تدعمهم السلطة لدينا ومن تعاديهم ومن تراقبهم. لأشعر حينها أن حماستي تلك لا وزن لها أمام حسابات السلطة. وقد تبيع حماستنا في لحظة اتفاقٍ ما وتضرب باندفاعنا لما ربتنا عليه عرض الحائط.
اليوم يمتلئ التلفاز بمشاهد المعارك في غزة، وصواريخ المقاومة، وحشود المدافعين عن الأقصى، والمرابطين في حي الشيخ جراح، وصولاً إلى فلسطنيي الداخل المحتل، ليفرض ذلك حضوره على الجميع ويفرض زخمه وتوحيده للجميع. في حين ينشغل إعلامنا بالانتخابات الرئاسية التي يرون فيها تتويجاً لنصرهم المزعوم. لتأتي الانتفاضة الفلسطينية الجديدة وتعيد الزخم للشارع والشعب ومقاومة الظلم مهما تجبَّر. لتأتي في وقتٍ شعرنا فيه أن القضية الفلسطينية ذهبت وما لبث الجميع ينفك من حولها، وأن القضية السورية ذهبت معها أيضاً.
لكن عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة أشعرتني بأن القضايا لا تموت طالما هي حيةٌ بداخلك، أشعرتني بأن وحدة القضية السورية والفلسطينية تعود لتفرض نفسها من جديد، بل لتؤكد لنا بأنه لا يمكن حل إحداها بمعزل عن الأخرى، فنظام الفصل العنصري الصهيوني كمسنن في عجلة استبداد نظامنا، ولا يمكن التعايش مع أي منهم، ولا يمكن لأي منهم أن يقف بوجه إرادة البشر في الحياة مهما ظن أنهم تناسوا قضيتهم، فلا يقوى أحد على أن يقف في وجه التطور والتغيير وحركة التاريخ، فالسيل عصيٌ على التوقف مهما حاولت أن تسد الطرق أمامه.
أشعرتني عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة وبقوة بأن قضيتنا السورية عادت ولو من جنوب الحدود الإدارية لسورية، لتحيي الشعب بداخلنا من جديد والذاكرة من جديد، كمهاجر أطلَّ بعد طول غياب عن أهله. عادت كما يعود المطر كل عامٍ ولو باسم آخر ليملأ المكان ويحيينا من جديد. نعم، هي عينها قضيتنا السورية وقد عادت، لكنها هذه المرة صارت تسمى فلسطين.