ألجمل.. للبيع؟؟
أمام المرآة، كأنني لم أعرف نفسي. اكتشفت فجأةً أنّ التأنّق غادرني. شعري الأشعث بحاجة ماسّة للتشذيب، وذقني للحلاقة؛ وقد تداخلت شُعيراتها البيض بالسود، فغدت حقل قمحٍ غلب اصفرار سنابله على اخضرارها، وعاثت فيه الثعالب والضباع خراباً محطّمةً اتّساقه وروعته، لتكمل الريح مهمّة بعثرته.
لماذا؟؟ لأنّ حالنا السوريّ يشبه حالنا العربيّ في مهبّ الريح، بعد أن عاثت فيه قيادة الثعالب والضباع فساداً محطّمةً اتّساقه وروعته، ونفثت فيه الأفاعي سمّها، ولعبت فيه الثعالب لعبة المكر والدهاء… محقّقةً جميعها قول “هرتزل” مؤسس الحركة الصهيونية: «سنولّي عليهم سفلة قومهم، حتى تستقبل شعوبُهم جيشنا بالورد والأرزّ..».
منذ أن طلبت “سميرة توفيق” من “علي” أن يبيع الجمل- منذ أكثر من نصف قرن من الزمان- وألحت عليه: «بيع.. بيع.. بيع.. بيع.. بيع الجمل يا علي»؛ و”عليٌّ” حائر بين بيع الجمل إكراماً لعيونها الغجرية، أو الإبقاء عليه ولتذهب هي وعيونها إلى “الشب الأسمر” الذي جنّنها…
وبعد عقود أربعة وتزيد؛ باع “علي” الجمل بما حمل إكراماً لعيون “إيفانكا”، وغادر صحراءه إلى غير رجعة، ضارباً عرض الحائط بالأغنية، التي سهر عليها طويلاً المبدع “فريد الأطرش” لتلحينها، والتي حارب مع “سميرة توفيق” عدة أشهر حتى سُمح لهما بنشرها وتسجيلها إذاعياً، “خوفاً من عدم الموافقة على بيع الجمل؛ رمز العربي ابن الصحراء”.
أمّا جَمَلنا- نحن السوريين خصوصاً، والعرب عموماً- فباعه “محور المقاومة والممانعة” بسعر قشور البصل بعد أن جرّدوه من فروته وحدبته، ولم يعد يقوى على السير على شُرّافتيه؛ فغدا يزحف على ركبتيه، وبعد أن امتصّوا مخّ عظامه فغدت هشّة كعود يابس تتقاذفه الريح، وبعد أن ألهموه خشخاشهم فتاهَ في صحراء العرب… وأصبح المواطن العربيّ يحلم برغيف الخبز، وهو يفرّ كعجلة سيارة مسرعة من أمامه.. أو يحلم بشربة ماء صافية بعد أن ولغت الكلاب والثعالب بمائه وهوائه، وغدا كل شيء فاسداً.
حين تنتفض “القدس” وأخواتها: “يافا” و”حيفا” و”عكا” وووو، ينبض القلب العربيّ المتهالك، محاولاً بثّ الأحمر القاني في أوردتنا؛ من الماء إلى الماء، بعد أن كاد الدم الأسود يفجّرها نفطاً؛ يطغى على اخضرار مراعينا وزُرقة جداولنا وبحارنا وسمائنا.. حين ينبض قلب الشيخ (الشيخ جرّاح)، ينتعش دم الشباب القاني، ويهدر وقوداً لشعلة ثورة إنساننا؛ التي كادت تتحوّل رماداً، ويهتف بحقّ فلسطين بالحياة حرّةً من دنس الصهيونية المحتلّة، ومن فسق حكامنا الخونة الذين غيّبوا حق الحرائر والأحرار في فلسطيننا، وبصموا على تزوير التاريخ العربيّ، وعلى الموافقة (المنافقة) لشُذّاذ الآفاق على كذبة أرض الميعاد والهيكل المزعوم.
شبابٌ تتلامح بين عينيه آمال أمّةٍ بناها الأجداد بدمائهم، وضيّعها السَّفَلَةُ بتآمرهم وخياناتهم.. شبابٌ من المحيط إلى الخليج، ومن منابع النيل إلى منابع دجلة والفرات؛ يغلي الدم النابض في فلسطين بين أوردتهم وشرايينهم.. شبابٌ أعلنوها ثورةً على حكامهم الخانعين ومستبدّيهم المتآمرين، وها هم يعلنونها ثورة على التقسيم والتفرّق والتباغض، ويهتفون: “بالروح.. بالدم.. نفديكِ يا فلسطين”، “بالروح.. بالدم.. نفديكَ يا أقصى”.. ليشقّ الهتاف عنان السماء.
«لكلّ إنسانٍ متحضّرٍ في هذا العالم وطنان: وطنه الأم وسورية» هذا ما قاله “شارل فيرلو” باحث الآثار الفرنسي، وعالم المسماريات الشهير.. لمعرفته بحضارة بلاد الشام، وما قدّمته للبشرية من إسهامات حضارية؛ ليس أوله اختراع الكتابة وإنشاء المدرسة الأولى.. ولا آخره إطلاق الشعاع الأول لممارسة الحياة الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي وابتداع أول برلمان.. إضافة لما يختزنه تاريخها الفكري- الثقافي- الروحي- السياسي- الاجتماعي؛ من فنٍّ وعلمٍ وفلسفاتٍ وشرائع وملاحم وأساطير وعبقرياتٍ وبطولاتٍ وإنجازات…
ابن هذه الأرض، ومهما تاهت به السبل، ستبقى جذوره الضاربة في عمق هذه الأرض تخزّن لما هو آتٍ، وسينهض مثل «عنقاء الرماد من الدمار..» ويمتشق محبّته عنواناً، وشعاع حضارته منجلاً.. فلا ثلّةٌ من شذّاذ الآفاق تكسره، ولا مجموعةٌ هجينةٌ من المتآمرين الفاسدين تُغيِّبُهُ.. سينهض من جذور برتقال “يافا” وليمون “حيفا” وزيتون “القدس”، وسيهلّ من سفوح لبنان وزغاروس والأحواز حتى قلاع عدن وصنعاء وسفوح الأطلس.. قِبلته قدسه ونداؤه الأقصى… «كلّ ليمونةٍ ستنجبُ طفلاً……. ومحالٌ أن ينتهي الليمون»…
والآن، أمام مرآتي، أعيد ترتيب هيكلي وهيأتي وجذوري… أعيد ترتيب أبجديتي من الصورية والمسمارية حتى أبجد هوّز فالألف باء العربية.. أعيد ترتيب بابلي وأهراماتي وأسوار قلاعي المطلّة على البحار والصحارى.. وأنثر شعري فوق الخليج العمريّ وبحر العرب والبحر الأحمر.. أرسم محراثي الأول الذي لم يتقاعد منذ تسعة آلاف عام، وصورة جدّي صيدون وجدتي أوروبا.. وأترك لـ”عشتار” و”تمّوز” خلق الآلهات الشرقية والغربية على امتداد الحضارة..
أنا “القدس” حفيدة “دمشق”، وأخواتي “بيروت” و”عمان”، وأمي “بغداد” وخالتي “القاهرة”، وعمّتي “الدار البيضاء” وأختها “نواكشوط”، وبناتي “الجزائر” و”تونس” و”طرابلس” و”الخرطوم” و”صنعاء” و”مسقط”…
وأنا كنتُ “فلسطينَ” وأبقى
رمز قهر الطامع العادي المهاجم
رمز حبّ الكلّ.. من بوح الحمائم
«يا عدوّ الشمس
في الميناء زيناتٌ وتلويحُ بشائر
وزغاريدٌ وبهجة
وهتافاتٌ، وضجة
والأناشيد الحماسية وهجٌ في الحناجر..»
ها أنا عائدةٌ من بعد “نوحٍ” و”إنانا”
«وعلى الأفق شراعٌ
يتحدّى الريح واللجّ ويجتاز المخاطر
إنها عودة يوليسيز
من بحر الضياع
عودة الشمس، وإنساني المهاجر
ولعينيها وعينيه يميناً لن أساوم
وإلى آخر نبضٍ في عروقي سأقاوم…».