هلوسة على جدار الحجر
بات الطريق إلى سوق المدينة حيث أعمل في محلٍ صغير، من روتيني اليومي، أستقل الباص ومن ثم أسير مشياً على الأقدام إلى أن أصل حيث أعمل في قلب السوق.
لكن اليوم لم يكن كغيره من الأيام المعتادة، أشخاص يمرون يرتدون الكمامات على وجوههم، أناس يتقابلون ويقفون على مسافة من بعضهم تحميهم من نقل العدوى، السوق خالٍ من الطلبة الذين اعتدت أن أراهم مسرعين إلى مدارسهم، فقد أقرت الحكومة لهم عطلة لمدة أسبوعين، الأمر الذي أثار ريبة الناس من انتشار الوباء فباتوا يأخذون احتياطاتهم من عدوٍ مجهريٍّ مجهول، إنه الكورونا.
بعد ذلك بأيام يخرج قرارٌ حكوميٌّ جديد بمنع التجوال بعد السادسة مساءً وقرار آخر بإغلاق الأسواق إلا من المحال الغذائية كالمحل الذي أعمل فيه. يخلو السوق من المارة ومن الحركة الاعتيادية. الناس مرتابة من بعضها البعض أكثر، بالكاد تلحظ أحدهم يمر أمام المحل إلا في ساعات الصباح لشراء بعض الحاجيات الغذائية الضرورية، ومن ثم تجف المدينة من سكانها رويداً رويداً إلى أن تنعدم الحركة في السادسة.
كذلك تخلو المدينة من أصواتها المعتادة، لا صوت عربات ولا دراجات، ما أتاح فرصة لاحتلال الكلاب للشوارع، صوتهم في ساعات المساء يوحي بأن الساعة باتت ما بعد منتصف الليل. تغفو الشمس من مللها فلا أحد في الخارج يحتاج إلى نورها. يسود الصمت ويطبق بجناحيه على المدينة، ويطبق معه شعورٌ بالوحشة ويتسع مدى السمع لأبعد من العادة إذ تستطيع سماع صوت من يتكلم خارجاً في الحارة المجاورة، ليتردد صداه كخربشة على الصمت القاتل.
أحاول كسر الملل بالقراءة من باب الاستفادة من وقت الفراغ الذي بات كبيراً، دون أن أقوى على ذلك، فالملل والشعور بالحبس يحمل معه التوتر أيضاً والشعور بالترقب لما ستحمله الأيام المقبلة. فأقرر النوم باكراً علني أستطيع البدء بيومٍ جديدٍ أفضل من هذا اليوم. أستيقظ في الصباح دونما نشاطي المعتاد فلم أعد أتوقع من يومي أن يكون حافلاً كالعادة أو حاملاً لنشاطاتٍ زاخمة. أسلك طريقي المعتاد إلى السوق حيث أعمل، كالعادة المدينة شبه نائمة ولا تزيد من نشاطك بشيء، الحركة شبه معدومة والحياة فيها تكاد تكون متوقفة.
يدخل أحدهم ليشتري، أبيعه واتناول علبة المعقم لأعقم يديَّ، بتت أحترس من كل شخص وألعب ضد احتمال أن يكون مصاباً وحاملاً للمرض، أسترق النظر على الصيدلية التي أمامي حيث وضعت حاجزاً من الزجاج أمامها يفصل بينها وبين زبائنها، فيما أبقت فيه على فتحة سفلية لتناول النقود وإعطاء الدواء. بات الجميع يهاب الجميع، والكل يتعامل مع الآخرين على أنهم مصابين محتملين، والجميع يرفع الحواجز مع الجميع.
“عم يقولوا في إصابات جديدة” يقول أحد الزائرين. إذ بات الوباء المسيطر الأول على الحديث، الخبر رقم واحد والوحيد ربما. ذكرتني تلك الحالة يوم سقطت القذائف فوق السويداء قبل سنتين حين هاجمت قوات الجيش السوري المعارضة المسلحة في محافظة درعا، يومها استطاعت تلك القذائف القليلة العدد أن تصبح الخبر رقم واحد، وتحوز على كل حديث ومخاوف الناس، واستطاعت أيضاً أن تفرض حالة من حظر التجول وتغلق المحلات والأسواق، يومها أتذكر أنني مشيت في الشوارع رغم الخوف، وبالكاد وجدت فيها من يمشي غيري.
القضية الثانية التي اضطرت السويداء لتلك الحالة من التوتر وحظر التجوال هي هجوم داعش على قراها الشرقية منذ عامين أيضاً، وهجومهم بتفجيرات داخل المدينة كذلك، حينها ساد الصمت والترقب والوحشة أيضاً على المشهد. كذلك هو مشهد مدينتي اليوم الخاوية والخالية من سكانها وكأنهم اتخذوا جميعهم وفجأةً قراراً بالرحيل دون إعلامي.
أجلس في المنزل مساءً أفتح الإنترنت حيث بات متنفسنا شبه الوحيد، ووسيلة التواصل لتبادل الاقتراحات حول كيفية تفادي ضجر الحجر الصحي، فهذا ينصح بكتاب وذلك ينصح بدورات على الإنترنت والبعض يتحدث عن ضرورة ممارسة الرياضة المنزلية، بتنا كمن يعيش في السجن وما عليه سوى الحفاظ على صحته قدر الإمكان وبالقدر المتاح له ريثما يخرج منه.
لكن وفي المقابل فكرت مع نفسي ما هو سر خوف الناس ومللهم السريع من الجلوس في المنزل، هل هو الخوف من الوحدة، هل هو الخوف من نفود النشاطات المنزلية، لماذا علينا الخوف من الجلوس مع أنفسنا، فهل ذلك أمرٌ صحي. ففي الوقت الذي لا يستطيع فرد ما الجلوس مع نفسه فذلك يعني خوفه من الخواء الذي يشعر به مع نفسه، فكيف لإنسان يخشى نفسه أن يكون متصالحاً مع الآخرين. كيف لإنسان لا يجد نفسه إلا مع الآخرين أن يجدها بالفعل، لا فقط على سبيل ذوبانها في الاحتشاد. أن يجدك البعض جليساً خفيف الظل أو ذو مزاجٍ دمث دون أن تقوى على تحقيق ذلك مع نفسك وحدك فهل هو أمر صحي.
يقول أغلب من غادروا البلاد أن أكبر ما يواجهونه هو البحث عن الهوية في المجتمع الغربي، حيث فقدوا صلة التواصل مع محيطهم الذي اعتادوه، فهل هذا ما أصاب من اضطرته الكورونا إلى الدخول للمنزل، أي أن فقدانه للتواصل مع محيطه أشعره بضياع الهوية التي اعتادها أم أن الإنسان بالفعل كائن اجتماعي بامتياز ولا يجد مجالاً لهويته إلا من خلال الجموع التي تعكس شخصيته وتبلورها، أم أن العلاقة تبادلية وهنا ما أتفق معه أكثر في أن الإنسان لا بد وأن يحمل هوية ما وذات لها استقلاليتها لكنها لا يمكن أن تتبلور إلا مع الآخرين الذين هم امتداد له لا أكثر.
كل تلك الأسئلة باتت تراودني مع هذا الحجر الإلزامي الذي فرض علينا على غفلةٍ منا ورمانا أمام أسئلة لم تكن لتخطر على بالنا ونحن نعيش حياتنا الاعتيادية اليومية، وكأننا فقدنا فجأة شيئاً ما فدفعنا للتفكير بغيابه. الجميع يحتاج للخروج والتواصل اليوم وكأنه لم يعد يطيق العيش مع نفسه، فهل نكره انفسنا إلى هذا الحد، هل نمل بهذه السرعة مع ذواتنا إلى هذا الحد لدرجة التمني بانتهاء الأوضاع باكراً لنعود ونغوص بين من لا نجد أنفسنا إلا معهم وبينهم.
عدت إلى حاسوبي المحمول وبحثت حسب نصيحة صديق على دورة تدريبية أجريها مجاناً لأتعلم مهارة ما عبر الإنترنت، وشردت في تلك الفكرة أيضاً، هل الإنسان كائن تقني إلى هذا الحد كي يبقى دوماً مستنفراً لزيادة مواصفاته، لماذا يجب علينا دوماً البحث عن تطوير الذات وكأنها سلعة يجب ان نقدمها بأبها حلة وأفضل مواصفات، متى يتسع لنا العيش مرتاحي البال وبرخاء تجاه أنفسنا، كنا نتمنى دائماً ان نجد وقتاً لأنفسنا ولذاتنا في صخب العمل، ها وقد تحققت تلك الفسحة والسكينة فلماذا علينا أن نستثمرها ايضاً في تطوير إمكانياتنا في العمل، لماذا لا نستغل تلك الفرصة في الجلوس مع أنفسنا في سماعها والإصغاء لها، لطالما تمنينا تلك الفرصة وها هي قد حصلت.
أغلقت الحاسوب، وأغلقت على كل تساؤلاتي وحيرتي فيما أفعل، وخرجت إلى الردهة التي أملكها في شقتي، أشعلت سيجارة إلى جانب فنجان القهوة، وقلت في نفسي وبكل استرخاء أهلا وسهلاً بي.