الملتقى عنده!!

ابن عمتي “وائل”، يصغرني بأعوام…
كنا- هو وأنا- نتسامر بتلك الأحاديث الرنانة عن أبطال الجاهلية، وعمّا كان يفعله “الزير سالم” ببني بكر بعد مقتل أخيه “كليب” على يد “جساس”، وكيف أشبع نفسه من دمائهم دون أي شفقة تذكر.. كان الفرح يبدو على وجهينا، وكنا نعلم ما هو القاسم والإحساس المشترك في نفسينا، الحميّة الجاهليّة، إنّه التشبّه بـ”الزير سالم”، وبأولئك الأبطال الذين كانوا يبيدون الأعداء.
مما لا شك فيه أن تضارب الأفكار في مساحة تلك الأضلاع المسحوقة، إضافة إلى ذلك الخط الأسود المائل إلى أعلى ويسار تلك الصورة المشؤومة، المعلّقة على الحائط، سيولّد في نفس أي شخص يراها مخاوف شتى، مما حدث للشخص المتوفى، لأنه سيمسي على تلك الحالة عاجلاً أم آجلاً، شاء أم أبى، مكرهاً أم موافقاً… لكن الغريب في موضوع حساس ومرعب إلى هذا الحد، هو استغلال تلك الحالة الفظيعة، لتحقيق مآرب شخصية أو دنيوية أو حتى أخروية، من الشخص المراد.. ولا سيّما عندما يكون ذلك الشخص قاصراً وموفور الذكاء، عاطفياً، مسحوق الإرادة، منعزلاً عن هذا العالم… يشغله ما بعد موته ويلهيه عن حياته المعيشة، بعد أن مسحوا دماغه، ووعدوه مراراً وتكراراً، وبشكل أكيد لا مجال للشك فيه، بأن ما ينتظره بعد موته هو شيء لم ولن يرى مثله أبداً.
وحده بعد أن كاد الحماس يقتله، كان “وائل” غريب الأطوار، كان قد تأثر بما يحدث من “جهاد” في قريته “الطرفاوي”، على أيدي رجال “الدولة الإسلامية في العراق والشام”- داعش، ناهيك عن جهل أهله الأميين وطبيعة حياتهم البدوية… أصبح “وائل” يريد إعلاء كلمة الحق في هذه الكرة الأرضية، وأصبحت أقواله وأفعاله مثيرة للجدل وللرعب وللريبة.. فكل أمر موجود ووارد، في هذا الكون الفسيح.
بعد أن كنا نسهر ونقضي الليل والنهار معاً، والأفراح والأحزان نرسلها إلى ما وراء الطبيعة الأزلية ذات الأحافير الكهرومغناطيسية، طرأ تغيير جذري على حياة “وائل”.. تعليمٌ ضحلٌ لم يرقَ إلى القراءة الواعية، فقرٌ مستشرٍ من ناحية، والزواج بعيد لضيق ذات اليد من ناحية أخرى، ناهيك عن الحالة المعيشية المتردية أصلاً، والمتّخذة طريق الانحدار المستمر إلى القعر.. تلك التعاسة التي تخيم في المخيمات والبيوت، كان لا بد من أن تدفعه للتغيير، أو للتفكير بما وراء الطبيعة.. كان يبحث عن فرحة أبدية تنسيه كل ما عاناه منذ ولادته الى أن تجاوز به العمر السادسة عشرة.
عندما كانت تأتي “الحسبة” (لجنة المحاسبة الداعشية) إلى تلك القرى لكي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كان “وائل” معجباً بأولئك العساكر الملتحين، وكان ذلك يظهر على وجهه من دون أن يتحدث.. أما كيف ومتى كان يجلس معهم ويحدثهم عن شجاعته، وأنه طالما كان معجباً بأقوالهم وأفعالهم ويمتدحها، فلا أحد من أهله أو المقربين منه كان يعرف ذلك.. لكن حين التقيته فجأة دون ترتيب مسبق- وكانت آخر مرة شاهدته فيها- استرسل بالحديث لي عنهم: «سألني أحدهم بلهجة رصينة فيها حنان غير معهود لدي ولا حتى من أمي: ما الذي يعجبك بنا يا “حبيبي”؟ فالتفتُ وقلت: كل شيء تقولونه وتفعلونه، كل شيء.. فضحك ضحكة شفافة، لا أعلم ماذا كان الهدف منها».
لم أكن أريد أن أعلم، لكن أُجبرتُ أن أعلم، حين ذهب “وائل” ذات مرة الى “مسجد القرية” وأخذ يؤذن في الناس، للصلاة والفلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الموبقات ومنها الانتحار. كان ذلك طبيعياً وأقل من عادي، فقد أصبح “قريبي” إنساناً ملتزماً وعاكفاً في المساجد، يتصدق ويصوم ويصلي، وأصبحنا نعجب به، كأقرباء، وصرنا نتمنى أن نصبح مثله، فلا ضير في شخص مستقيم ذي أخلاق رفيعة وعالية، كان هذا طبيعياً.. لكن ما كان لا يُصدق فهو بعض التصرفات الغريبة، كأن يذهب ويغسل يديه فوراً إذا لمس يده أحد من عائلته، أياً كان ولو أمه.. أو إذا فاتته صلاة، يسارع في الذهاب إلى شيخه لكي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويصحح له مساره ووو، والقائمة تطول.
لا شك أن سلوك “وائل” أثار الاطمئنان والجدل في الوقت نفسه- وفي قلب “أمه” بشكل خاص- إلى أنّ ما يفعله ينمّ عن أخلاق عالية، لا تضاهيها أخلاق لديها، والجدل والخوف بأن قلب الأم يحدّثها بأن الأمر فيه ريبة. لكنّ “وائل” وصل به الأمر ليبقى في المسجد قائماً نائماً، ليلاً ونهاراً، حتى ضاقوا ذرعاً به، وبتصرفاته الغريبة، والصالحة في الوقت ذاته دينياً على الأقل.. أما من كانوا يديرون دفة الاتجاه الوائلية فكانوا يرمون- من لحظة لقائهم به- إلى جعله قنبلة موقوتة، حتى وصل به الأمر الى “المحظور”، عندما حانت ساعة الصفر، لتجد “وائل” ضاحكاً في تلك اللحظة المأساوية، التي فقدناه عندها.
حدّثوه عن كل شيء صالح في هذه الحياة، من وجهة نظرهم، وكانوا يختبرونه إن كان حقاً صادقاً أم منافقاً، دون أن يدري أنه يتعرض لمسح دماغ من قبل تنظيم متطرّف.. الصادق عندهم لا يثبت حقيقة إيمانه القائم على أخلاقه العالية، إلا بالموت في سبيل أهدافهم الدنيئة، أما إن كان منافقاً فسيقتل فوراً.
“وائل” لم يكن لديه نية الهروب من قدر هو من يسير إليه بكامل قواه العقلية والبدنية، بعد أن استطاعوا السيطرة عليه وتوجيهه، فداخله اليقين بأنه نكرة وهم معرفة مطلقة.. يعلمون إلى أين سيذهب، ويحبونه لدرجة أنهم سيرسلونه الى النعيم الأبدي عوضاً عنهم، فيا لهذا الحب العظيم!!!! لم يعد لديه أدنى شك في ما يريدونه له كان خيراً صرفاً، وكان هذا يجعله في غبطة ونشوة ظاهرة في وجهه، إنه سائر إلى “النعيم الأبدي”، والى “الحوراء البيضاء مع اسوداد الأجفان” أي “الحور العين”، وإلى “نعيم” يستحيل أن يتصوره عقل شخص قاصر مثل عقله، الذي أمسى على قناعة تامة إلى أين سيذهب.
في تمام الساعة الثانية والنصف صباحاً، انطلق “وائل” في غسق الليل إلى مسجد القرية، وكانت خطة شيخ الجامع، أن يذهب متسلّلاً إلى القطعة العسكرية المحاذية لقريته، لتنفيذ تفجير بدبابة يقودها هو فقط نحو السماء.. كانت العملية سهلةً وخاطفةً، ليذهب بسرعة الضوء إلى “النعيم الأبدي”، وليصبح ذكرى لا تزال حكراً على المبشرين بالنعيم فقط.
والدة “وائل”- بعد أن مضى على غيابه أكثر من عشرة أيام- كانت تعلم بعلاقته مع أولئك العساكر المرهفين في الإحساس، المطلقين للحاهم تكنس ما بين رجليهم وأمامهم وخلفهم.. ذهبت إليهم لتسأل عن فلذة كبدها، أو لتعلم أين مكانه؟
فأجابها أحدهم بلهجة هادئة جميلة جداً:
«الملتقى في الجنة إن شاء الله».