دوار جرابلس
لم يمض على وصولي لمدينة منبج أكثر من ثلاثة أيام، كنت أشتهي طريقا أكثر سلاما لأودع هذه البلاد التي قضيت فيها سنوات حياتي الخمس والعشرين المنصرمة، وكأن مشاهد الجثث الطافية في نهر قويق قبل ثلاثة أعوام لم تكن كافية لزرع الرعب في كل واحدة من خلايا جسدي على حدة.
كانت الأحلام على أشدها لحظة اندلاع الثورة في سوريا، لم نتخيل يوما أننا سنتسطيع أن نهتف للحرية في شوارع هذه البلاد المخنوقة بالنفايات والسماسرة ورجال المخابرات، لقد بلغت العزيمة فينا أشدها تلك الأيام بعد انتصار الثورة في مصر وتونس ولم نكن بأقل شأنا من تلك الشعوب التي انتفضت، لكننا لم نظن لحظة بأن العالم بأكمله سيقف متفرجا بتلك الحيادية على نهر الدم السوري وهو يجرف في طريقه أجساد ومصائر أهل هذه البلاد.
كانت اللحظات الأولى لوصولي لمدينة منبج كافية لأدرك أن الحرية التي طلبناها ستكون عصية على هذه البلاد لفترة تزيد عن قدرتنا على إدراكها. اللون الأسود المنتشر في الشوارع يزيد عن حاجة الناس إلى اليأس، مقاتلون بلغات مختلفة يقفون على مداخل الشوارع والطرق والحارات الضيقة وحتى البنايات يدققون في هوية السكان، يسألونهم أن يثبتوا أنهم من سكان هذه المدينة، يطلبون منهم أن يثبتوا براءتهم من الجيش الحر ومن المتظاهرين ومن فكرة الحرية، كانوا بطريقة أو بأخرى يطلبون منهم إثبات براءتهم من الثورة نفسها، كان الخوف يفيض من نفوس البشر هناك.
ثلاثة أيام فقط في هذه المدينة قد شهدت خلالها -حتى الآن- تنفيذ أكثر من عشرة أحكام للجلد في سوق المدينة وحكمين بقطع اليد أحدهما لطفل لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره لمجرد أنه قد باع خضارا لأحد المقاتلين التونسيين -ادعى أحدهم بأنه قطفهم من أرضه دون إذنه- الذي جلب الطفل نحو قاضي التنظيم وهذا بدوره أصدر حكمه في دقائق معدودة لانشغاله مع غيره من “القضاة” بدراسة قضية أخرى أكثر أهمية لمقاتلين سابقين في الجيش الحر سيصدرون عليهم حكما لاحقا بالقتل والصلب في ساحات المدينة.
وقف الطفل باكيا قرب عربة الخضار التي كان يجرها بيدين حُكم بقطع إحداهما، “ستجرها بيد واحدة بعد اليوم” -قال أحد المقاتلين متهكما بلهجة عراقية- طلب المقاتل من الطفل أن يمد يده على العربة لتنفيذ الحكم، كان هذا المقاتل يتكلم وكأنه معلم يحاول التأكد من طول أظافر أحد التلاميذ، حالة من الهلع سببها صوت طائرة للنظام تحوم حول المنطقة، إنها من طائرات التحالف قال أحد الحضور، بل للقوات الروسية، رد رجل يحمل بندقية ويقف بالقرب بصوت مطمئن.
لم أحتمل الوقوف طويلا في المكان لأشهد تنفيذ القطع، لكن الانسحاب بطريقة واضحة قد يكون مؤشرا على اعتراضي على هذا الحكم قلت في نفسي، لقد كانت المشاعر وحدها كافية لتعريض صاحبها لعقوبة لن يزول أثرها لبقية الحياة، تراجعت رويدا رويدا وأنا أراقب الناس حولي مستغلا انشغالهم ببكاء الطفل، وبمشهد المقاتل وهو يشحذ السكين الكبيرة المخصصة لتنفيذ أحكام القطع والتي أحضرها أحدهم من دار القضاء لانفاذ الحكم.
في اليوم التالي علمت من الشخص الذي دفعت له لتهريبي إلى تركيا بأنهم سيقومون بتنفيذ حكم الصلب بعدد من مقاتلي الجيش الحر وستكون المدينة بأكملها مشغولة مما يعني بأنها الفرصة الأنسب لخروجنا من المدينة ويقلل احتمالات حدوث مواقف غير متوقعة على حواجز التنظيم المحيطة بالمدينة واعطاني رقم السائق الذي طلب مني أن اجهز أغراضي لالتقيه بالقرب من دوار جرابلس حيث يقومون بتنفيذ احكام الاعدام بالعادة، ولم ينس السائق أن يذكرني بارتداء لباس فضفاض والظهور بمظهر رث والتأكد من عدم وجود أي أثر لرائحة التبغ على ملابسي وسيكون من الجيد لو استطعت الحصول عل مصحف صغير أضعه بين حوائجي.
أصابتني حالة من السخرية عندما أغلقت الهاتف، ما هي علاقة التبغ -أنا في الأصل لا أدخن- بالهروب من المدينة، ولماذا اختار الانطلاق من نفس المكان الذي سيقومون فيه بتنفيذ الاعدام، ربما من أجل الزيادة في التمويه قلت في نفسي.
وفي اليوم التالي كنت على الموعد تماما، كانت الجموع تقف منتظرة قدوم سيارات التنظيم لتنفيذ الحكم الذي علم به كل سكان المدينة في الليلة السابقة، وكان السائق يقف بين الناس قريبا من المنطقة المخصصة لصلب المقاتلين، كان يتحدث مع رجلين مسلحين يقفان قربه بثقة واضحة في النفس وبصوت عال، لدرجة خشيت معها أن يكون هو نفسه أحد المنضوين تحت لواء هذا التنظيم.
كان المتجمعون في المكان يتحدثون عن الشخص الذي سيتم تنفيذ حكم الإعدام به وكأنه كان معروفا لكل سكان المدينة، قيل أن اسمه جاسر المرعي من قرية الدادات التابعة لمدينة منبج، وكان مقاتلا سابقا في صفوف كتائب الفاروق في المدينة، كان التنظيم قد أحضر عددا كبيرا من المقاتلين تحسبا لأي رد فعل قد تقوم به عشيرة جاسر الموجودة في المدينة، لقد كانوا في الحقيقة ثلاثة أخوة سيقتلون في الوقت نفسه وقد تم إلقاء القبض عليهم بعد سيطرة التنظيم على المدينة ومن ثم أطلق سراحهم بعد شهر ومن ثم اعتقلوهم من جديد، قيل أن أحدهم وشى بهم بأنهم كانوا مقاتلين في صفوف الجيش الحر ضد التنظيم في معارك سابقة وقد عانى الاخوة الثلاث كافة أنواع التعذيب لانتزاع الاعترافات منهم دون جدوى وسرت عدة شائعات بموتهم تحت التعذيب ليحسم قاضي التنظيم الأمر في النهاية بإصدار حكمه:
يقتل عدنان عند دوار الجزيرة في منبج، ويقتل ابراهيم ويصلب عند مدخل مدينة جرابلس، أما جاسر فيقتل ويصلب على دوار جرابلس في مدينة منبج وتنفذ جميع الأحكام بعد صلاة العصر.
لم تتأخر سيارات التنظيم السوداء أكثر من عشرين دقيقة بعد سماع آذان العصر، لينزل منها جاسر يدفعه أربعة عناصر، كان رجل بجثة ضخمة يحتاج حقا عددا من الرجال للسيطرة عليه، وعلى غير العادة لم يتل قاضي التنظيم الحكم أمام الناس، ربما احتياطا من أخبار ترددت بأن عشيرة هذا الرجل تجهز لمنع تنفيذ الحكم، وفجأة حاول الرجل المقيد الافلات من أيدي العناصر وقد تمكن من إفلات إحدى يديه من الحبال ولكن أحد مقاتلي التنظيم أطلق النار على قدمه فوقع أرضا ثم حمل وربط على أسوار الدوار ودون حتى أن توضع عَصبة على عينيه أُطلقت رصاصتان على رأسه فيما كان يتوسل براءته.
مضت السيارة بنا خارج حدود المدينة دون أي تأخير على الحواجز، كان السائق على ما يبدو مقربا من عناصر التنظيم و حتما كانوا يعلمون بأنه يعمل على تهريب الناس نحو الحدود التركية، وعند ابتعادنا عن آخر حاجز للتنظيم قرب مدينة جرابلس أخرج السائق علبة سكائره من جيبه ومدّ سيكارة نحوي:
“شكرا لا أدخن”
وكانت نشرة أخبار المساء التي تذاع من محطة راديو محلية تبث من داخل الحدود التركية تعدّ ضحايا مجزرة ارتكبها الطيران الروسي في مشفى الاطفال بمدينة عزاز، أطلق السائق الدخان في وجهي وهو يشتم النظام والروس على الجرائم التي يرتكبونها يوميا بحق الشعب السوري الأعزل.