الكون المحاكاة

يحكى أن جريدة إلكترونية اسمها The Onion، وهو اسم كفيل بجعلك تذرف الدموع من الضحك، نشرت عام 2012 خبراً يؤكد أن الزعيم “كيم جونج أون” هو أكثر الرجال إثارة على وجه هذا الكوكب. من الطبيعي أن يحتفي التلفزيون الكوري الشمالي الرسمي ــ بافتراض وجود غيره ــ بهذا الإنجاز التاريخي. لكن جريدة صينيّة واسعة الانتشار، اسمها “الشعب” بطبيعة الحال، هي التي نشرت الخبر وأبرقت إلى الرفيق كيم تهنئه مستفيضة في التحليل ومطنبة في المديح. حتى إن موقع The Onion، لما قام بتحديث الخبر، كتب: “لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، يرجى مراجعة مقالات مراسلينا في جريدة الشعب”. كل أخبار “البصلة” من هذا الطراز، لكن بعضها يحوز شرف تداوله بوصفه حقيقة علمية، معبرا بذلك بشكل صارخ عن قانون “بو”: دون معرفة يقينية بقصد الكاتب ونيّته، أي دون أن يُلحق كلامه بهاءات متراصفة أو وجوه باسمة أو مقهقهة حتى الدُماع، يصعب، إن لم يكن يستحيل، تمييز المحاكاة الساخرة من الرأي المتطرف المجنون.
لذا حين تجرأ السرطان على الدنو من ثدي عشتارنا مدنّساً طهر الحليب السوري الأسمى والأصفى والأكمل دسما، حِرنا في البيان الذي أصدره مجلس الشعب: أهو حقا ما قاله ممثلو جماهيرنا العريضة؟ أم أن أحد السوريين الخبثاء لفّقه ودلّسه؟ وإني وإن كنت أعيب عليه تغرّبه واستعانته باستعارات لن يهضمها شعبنا الجائع، ولعل هذا التغريب متعمد بقصد الإغراب، إلا أنه يظل نصا ممتازا. ثم إن نبوءاته تحققت، وهذا كفيل بإنزاله منزلة الكتب المقدسة. ولا عجب، فسوريا مهد الأديان.
“على الرغم من أننا في هذه السبع العجاف اعتدنا على سماع أخبار تهز النفس في أعماقها، إلا أن خبر مرضك أيتها السورية النبيلة كان الأقسى والأكثر إيلاما.
فأنت دائما كنت مصباح ديوجين بالنسبة للشعب العربي السوري الطيب الأبي، ومصباح فلورنس نايتنغل بالنسبة لجرحانا وشهدائنا الأبرار.
وستبقين هكذا لأنك منتصرة لا محالة على المرض، وباقية بالتأكيد رمزا للمرأة السورية المناضلة بقدرتها المعهودة على الجمع بين الرقة والعنفوان في سيمفونية واحدة هي طريقها في الحياة إلى الحياة.
نحن ممثلي الشعب العربي السوري الذي أحببتِ نشارك كل سوري وكل عربي وكل مخلص في هذا العالم الأمل الكبير في الانتصار على المرض، وعودتك إلى عملك الطبيعي قيثارة تعزف ألحان الوطن لتَهدي بصوتها كل باحث عن الحق والحقيقة في سوريتنا الحبيبة، ولتبقِي إلى جانب قائدنا العظيم السيد بشار الأسد سندا وعونا في مجمل نشاطه وحياته”.
ولقد يرى بعض الحاقدين في هذا البيان استخفافا بمعاناتهم وآلامهم، لكننا اعتدنا من الحاقدين احتكارهم المعاناة والألم، واحتقارهم لقيادتنا السياسية الحكيمة.
من جهة ثانية، وعلى صعيد مختلف، وفي المقلب الآخر، يريني أخي شريط فيديو يظهر فيه كائن ذو جلباب وعمامة ولحية، وتوحي مخارج حروفه بأنه عالم جليل. ينطلق هذا العالم في هذر تاريخي كرونولوجي متحدثا فيه عن أسياد الكون من الملأ الأعلى إلى العالم السفلي. ليخلص ــ في منطق سلس سليم ــ إلى أن بشار الأسد هو سيد البشرية في هذه الحقبة. الحشد خلفه لم يكبت انفعاله بهذا الجمال النظري فجعل يهتف وينتحب وينبح.
فعلا يحرق حريشك يا فضيلة الشيخ! وقد ورد في كتاب ” دليل البلغا إلى حوشي اللغة” أن الحريش هو غشاء شاذ يسد فتحة الشرج عند المصابين بانسداد الشرج الخِلقي والانحطاط الخُلُقي، وبذلك تكون “يحرق” مُصحّفة عن “يخرق” أو “يخزق” إذ كانت العربية غير منقوطة، غير معجمة. فهي إذن دعاء بالشفاء العاجل، ولا علاقة لها بالإتيان في الدبر. وليس في هذا التوضيح أني ضد الإتيان في الدبر، إذ كثيرا ما أستقبل من أمري ما استدبرت وأعود إلى تلك الأيام في مخيم اليرموك. لو أني كنت إعلاميا حينذاك وترعاني جهات دولية، لكنت كتبت:
“في فترات الأزمات الثورية، تراهم يلجؤون بوجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضين لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والأزياء والشعارات القتالية كي يمثلوا على مسرح التاريخ مشهدا جديدا في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال العراقة، وبلغة قديمة مستعارة”.
لكنني ــ والحمد لله ــ لم أكن، ولم أكتب ذاك الكلام، كتبه كارل ماركس في منتصف القرن التاسع عشر. هل كان يتنبأ بقدوم الدواعش مثلا؟ أستبعد ذلك، فقد كان يحلل انقلاب لويس نابليون. لكن وصفه دقيق إلى حد يثير الدهشة. وقد أسعفني الحظ بالحديث إلى أحد هؤلاء الشخوص التاريخيين المعاصرين، وليكن اسمه “أبو حسن”. ولا بد أن أعترف أنه يسقمني من يتخيل الدواعش كائنات خرافية، أو فضائيين عصيين على الفهم، أو مجردين من الصفات البشرية، وكأنهم أول من قَتَل أو الوحيدون الذين فعلوا ذلك منذ عهد جدّنا قابيل. أو كأن كوكبنا كان قبلهم مرتعا للملائكة والشعراء وعارضات الأزياء إلى أن هبط علينا أولئك المسوخ الذين يفسدون فيه ويسفكون الدماء. هل عشتم بين الدواعش؟ كيف كانوا؟ كيف تعاملتم معهم؟ من أي بلاد أتوا؟ هل يتحدثون بالفصحى؟ وبعيدا عن منهج ماركس، كنت أميل لتبسيط هذه المعضلة مستعينا بمثال جندي أمريكي من الذين شنّعوا بأهلنا العراقيين: هو شاب وسيم، مفتول العضلات، قوي الفك السفلي، عنده هوايات فنية، وصديقة تراه فائق الذكورة وهو يستعرض لها تُحَفه في “أبو غريب”، وربما يمكنك أن تشاركه البيرة وأنتما تشاهدان نهائي دوري البيسبول. هو إنسان إذن، على الأقل من منظور البيولوجيا، لكنه قاتل يقوم بواجبه تجاه وطنه وتجاه الديمقراطية.
وإذ ذكرت جنديا أمريكيا لا إسرائيليا، فلأني لا أريد أن أُتَّهَم بمعاداة السامية، أما إصابتي بالإسلاموفوبيا فهي بمنزلة “إيزو” الجودة الثقافية في هذا الزمن ابن القحبة. كان ملف التعليم آنذاك الشغل الشاغل لأهل اليرموك. لم يكتف تنظيم الدولة بإغلاق المدارس البديلة وفتح مدرستَيه، بل أخذ يضيّق على التلاميذ الذين يعبرون حاجز العروبة من وإلى مدارس البلدات الثلاث (لمزيد من القرف انظر في “سرد”: أشبال الخلافة وطلائع البعث).
قال لي أبو حسن يعتصره الألم:
– تخيل يا دكتور معاوية أني سألت تلميذة في الصف الثاني عن معنى “لا إله إلا الله” فلم تعرف الإجابة!
– ماذا سألتَها بالضبط؟
– ما معنى “لا إله إلا الله”؟
– وبم أجابتك؟
– الصلاة والصيام. تخيل!
ما كنت أحاول تخيله في واقع الأمر هو هذا المشهد: طفلة في السابعة من عمرها، يعلم الله وحده ما الذي أُجبرَتْ على ارتدائه، ناقصة النمو، مرتبكة، تُفتَّش حقيبتها المدرسية بحثا عن ممنوعات قد تحتويها، ثم يأتيها أبو حسن من العدم سائلا إياها ذاك السؤال الذي ربما يكون هو نفسه عرف “حلّه الصحيح” قبل يومين فقط، وليصاب بالغم والقلق الوجودي بسبب جوابها الذي لم يُشبع فضوله الفلسفي وعمقه الفكري ومتانته العَقَدية. حين كنتُ في عمرها وكانت المعلمة في المدرسة تسألني سؤالا، كنت أشعر أن مصيريَّ الدنيوي والأخروي كليهما معلقان بإجابتي. أعرف ذلك الرعب حق المعرفة، قلبي معك يا بنيّتي!
– هل كنت تتوقع مثلا أن تحدثك عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؟
– ليس… لكن… على الأقل… نعم!
ولأنها كانت أيام عيد ــ تخيلوا!ــ ما كان لهذا الحديث أن يزيدنا كآبة على كآبتنا.
كان ماركس قبل كلامه السابق قد كتب:
“يرى هيجل، في موضع ما، أن الأحداث والشخوص ذات الأهمية تظهر ــ إن جاز التعبيرــ مرتين. نسي هيجل أن يضيف: مرة مثل تراجيديا، ومرة مثل مسخرة”.
هل أفهم من هذا أن الكون يقلد نفسه؟ يحاكيها؟ يعيد إنتاج ذاته؟
منذ فِلم “ماتركس” والجمهور مطّلع على فكرة أن يكون الكون، عالمُنا الذي نعيش فيه، محاكاةً حاسوبية. ويقف وراء هذه الفكرة علماء متضلعون من الفيزياء قليلو البضاعة من الفلسفة ولم يعيشوا في مخيم اليرموك.
– هل عشتم بين الدواعش؟
– المصائب لا تأتي فرادى.
– كيف كانوا؟
– كما كانوا.
– كيف تعاملتم معهم؟
– مثلما تعاملتم معنا.
– من أي بلاد أتوا؟
– من صيدنايا.
– هل يتحدثون بالفصحى؟
– حين يتلون القرآن.
قد يكون الكون محاكاة حاسوبية، وقد لا يكون. قد يكون هيجل مصيبا في ملاحظته وماركس محقا في زيادته، وقد لا يكونان. لكن حياتنا في كثير من حروفها محاكاة ساخرة لقصة هي في الأساس هزلية.
تصميم اللوحة: المأمون محمد