الدكتور

“ربما كانت نوعاً من الدعابة أو النكتة عندما يسألون الدكتور عن ثمن الخضار والفواكه وهذا بالفعل ما اعتقدته حينما سمعت مجموعة من تجار الخضار يخاطبونه الدكتور، ولكن تبين معي أن الجميع يخاطبه هكذا، فتوقعت أنه مثل ما جرت العادة عند شعبنا ينادون بالدكتور كل من يتقن عمله ويبرع فيه، وهكذا رحت أخاطبه أنا أيضاً بالدكتور”.
ذلك ما كان يقوله لي زوجي عن ذلك الرجل “الدكتور” الذي يعمل معه في سوق الخضار، وكيف دفعه فضوله إلى سؤاله عن سبب مناداة الناس له بالدكتور ذات مرة، فتغيرت ملامحه وتوسعت عيناه ثم غارت في جمجمته وكأنه يخوض في بحث علمي، ليدرك زوجي أن لذلك السؤال جواب لا يمكن أن يبوحه بتلك السهولة وكأنك تسأله مثلا “كيف الحال؟”.
مع مرور الزمن توطدت علاقة زوجي بالدكتور وبات يزورنا في البيت أيضاً وقد تعرفت عليه عن قرب، ليأتي يوم أشعر وكأن فضولي لم يعد يحتمل جهل السر الذي وراءه، فبادرت في أحد الأيام لسؤاله عن تسمية دكتور وما وراءها من قصة.
كانت السادسة مساءً والسماء ملبدة بالغيوم المستعدة لتنزل ما في جعبتها من مطر، تهب رياح باردة من حين إلى آخر مصدرةً صوتاً يشعرك بالبرد ومن دون أن يلامسك الهواء.
بدأ الدكتور محمد كلامه: “أنا مجاز في الصيدلة وكانت عندي صيدلية في حلب حين بدأت الأحداث أو الثورة أو الفوضى فلتسموها ما شئتما، وكما تعرفان فإن حلب تأخرت قليلاً حتى دخلت بمشروع الثورة عدا بعض المظاهرات هنا وهناك والتي كانت أهمها في الجامعة”.
كنت مندمجةً في الحديث مع الدكتور ولكن صوت الرعد القوي كان يقطع حديثه ويخرجني من تخيل الأحداث التي يسردها عن حلب وما جرى فيها من أحداث ومظاهرات، وكأنه كلما كانت الأحداث تزداد اضطراباً كلما رافقها صخباً في صوت الرعد وعويلاً أكثر في صوت الريح.
سألته هل كنت لا تزال تعمل في الصيدلية بنفس الشغف، أجاب: “طبعاً ربما أكثر لأن رقعة الأحداث توسعت وأصبحت أكثر دموية مما جعلني في موضع أكثر تفاعلاً ولكن إنسانياً”.
استغربت قوله هذا وسألته بأي معنى فقال “لا شك أن لي رأي فيما يحدث في بلدي ولكن عملي فرض علي نوعاً من الحياد، فكنت أقدم المساعدة حسب قدرتي لأي طرف احتاج إليها من طرفي النزاع معارضاً كان أم مواليا. وهذا ما جلب لي المشاكل. قلت له وكيف ذلك؟ فقال: “لم يدرك الطرفان أنني إنسانياً ملتزم بتقديم المساعدة لمحتاجيها بغض النظر عن توجهاتهم فإذا أتى إلي أحد المصابين بطلق ناري طالباً المساعدة لا يهمني من أي جهة هو، فبالنسبة لي المصاب مصاب وواجب علي مساعدته. وذات مرة أتى إلي مجموعة وطلبوا مني تقديم تقريراً يومياً عن طبيعة الأدوية التي أبيعها ولمن بعتها، هل تصلح للجروح الناتجة عن إصابات الحرب أم أنها أدوية عادية ومن الذي اشتراها، مع توجيه أن لا أبيع الأدوية للموالين للنظام. طبعاً رفضت حينها وقلت لهم هذا ليس عملي فأنا أعطي الدواء لمحتاجيه وإذا أردتم معرفة كل هذا تفضلوا بالجلوس على باب الصيدلية واكتبوا ما يحلو لكم.
لكن الأمور تطورت أكثر وصرت أشعر بأنني مراقب من الطرفين وفي أحد الليالي بعد منتصف الليل طرق باب منزلي بشدة وكأن القصف الذي كان يدك بعض المناطق القريبة انصب على باب منزلي. استيقظت أنا وزوجتي وابنتي مذعورين وأسرعت إلى الباب وفتحته، وإذ بمجموعة مسلحة مؤلفة من خمسة أشخاص طلبوا مني أن أذهب معهم بسرعة لأن في الأحياء المجاورة خلف القصف العنيف الكثير من الجرحى والقتلى وأن الطاقم الطبي غير كافٍ وغيرقادر على متابعة هذه المجزرة، فقلت لهم بأنني لست طبيباً أنا فقط صيدلاني، فأجاب قائدهم لا يهم هيا بسرعة الوضع خطير، وأدركت من نظراتهم المفجوعة أن الوضع خطير فعلاً، ولا يحتمل النقاش ولا حتى التفكير.
عدت بسرعة إلى غرفتي وبدَّلت ملابسي وقلت لزوجتي التي ما انفكت عن محاولة منعي وسؤالي “إلى أين إلى أين”، قلت لها بحزم هناك أناس يحتاجون للمساعدة العاجلة، لم يخطر في بالي أن هذه المجموعة سوف تتسبب لي بالسوء إلا بعدما صعدت في السيارة خاصتهم وبدأنا ندخل في زواريب وأزقة ما مررت فيها من قبل، وبدأت أشاهد حجم الدمار، فتبخرت من رأسي كل الأفكار ولم يدر في ذهني إلا فكرة واحدة كم هي المأساة الإنسانية الناتجة عن هذا الدمار. وفي غفلة من أمري فجأة توقفت السيارة أمام مبنىً فقال لي أحدهم “هيا بسرعة إنزل” ونزلت معهم باتجاه قبو المبنى وإذا بالأنين والصراخ يملأ المكان أطفال ونساء كبار وصغار، كاد يغمى علي من هول المشهد. وقفت مكبلاً دون حراك مأخوذ مصدوم، وإذ بأحدهم يبدو طبيباً يقول لي “هيا سوف تقف كثيراً هيا ساعدنا” فقلت له أنا صيدلاني ولست طبيباً، قال “أعرف تعال وساعدنا في كذا كذا” وبطبعية الحال كان لدي القدرة على المساعدة الجزئية بحكم اختصاصي، وكان القصف العشوائي مستمراً وأعداد المصابين تزداد ومعظمهم مدنيين من الأطفال والنساء وكبار السن، قليل من الجرحى يبدو عليهم أنهم عسكريين وعرفت فيما بعد أن المنطقة المقصوفة كانت تشهد مظاهرة مسائية حاشدة.
أوصلوني إلى المنزل بعد أن عملت لساعات طويلة أنهكت قواي، وجدت زوجتي وقد جفت دموعها من البكاء نتيجة رعبها من الأفكار التي في رأسها عما حل بي، وعندما دخلت غمرتني بلهفة وبكاء شديدين. هدأتُ من روعها وأخبرتها القصة، وداعبت ابنتي قليلاً وطلبت منهن أن يدعوني أنام قليلاً فأنا متعب جداً، وهذا ما حصل، غطيت في نوم عميق لم أعرفه من قبل وبقيت نائماً حتى مساء اليوم التالي. عندما استيقظت احسست بإعياء وتعب شديدين وكأن ركام المباني المدمرة يجثم فوق جسدي، أشعر ببرد قارس أرتجف من شدة مشاهد الدم والأوصال المقطعة فضلاً عن الجثث التي لم تفارق عيناي. لاحظت زوجتي تعبي وسارعت ولمست جبيني، “حرارتك مرتفعة جداً وكنت كل الوقت وأنت نائم تهذي”، لم أصب بتلك الحالة من قبل حتى أنني لم أعرف تشخيصاً لها. قلت لزوجتي لا تفتحي الباب لأحد مهما حصل، كنت مشتت التفكير قلق من كل شيء من هول ما حصل، وفعلاً كما توقعت في نفس الليلة طرق الباب بشدة ولوقت طويل وسرقت زوجتي النظر وأتت إلي مسرعة إنهم نفس الأشخاص. فأشرت لها أن لا تفتح وأن لا تصدر أي صوت، كان ذلك رد فعل غريزي ليس رفضاً أو عدم قناعة بالمساعدة التي أستطيع تقديمها إنما قواي كانت متلاشية وخفت أن لا يتفهموا هذا، ظللت على هذه الحال حوالي الأربعة أيام، وكانت الصيدلية مقفلة طوال هذا الوقت.
بدأت أشعر بتحسن وقررت أن أذهب إلى العمل، حاولت زوجتي منعي وقالت لا تزال متعب لكنني أقنعتها أن الحركة أمر إيجابي في مثل حالتي. ذهبت إلى صيدليتي، فتحت بابها بصعوبة ولم يمض وقت قصير حتى بدأت الزبائن ترتاد المكان شعرت ببعض التحسن ولكن أحسست بأن البعض يحمل في نظراته كلاماً أو تصريحاً ما، فهمت منه أنهم يقولون نحن نعرف أين كنت ومع من ذهبت، مما دفعني إلى تقديم التبرير والاعتذار عن الغياب وأسبابه لكل زبون وبعد التحية مباشرة. حل المساء سريعاً فذهبت إلى المنزل وفي اليوم الثاني أحسست بتحسن أكثر فاستيقظت باكراً وذهبت إلى العمل كالعادة، ولاحظت في هذا اليوم أن شباب من الحي المجاور كانوا يراقبونني، بعد وقت قليل بقي منهم واحد، ظل يمشي في الشارع أمام الصيدلية ذهاباً وإياباً وكأنه يقيس الشارع، ثم يقف عند الزاوية المقابلة مدة ربع ساعة ويعود بعدها ويكرر من البداية ما يفعله، بقي هكذا طوال النهار.
وصلت في ذلك المساء إلى المنزل وإذا بالباب مفتوح، دخلت مسرعاً وصحت لابنتي علياء .. علياء لكنها لم تجب، ناديت زوجتي ولم تجب، دب الرعب في قلبي ورحت أبحث عنهما في المنزل كأنني أبحث عن شيء وقع من جيبي وأضعته، وفي غمرة حركتي الدائرية أتت عيناي على مدخل المنزل فإذا بسيارة تقف ملاصقة للمدخل وفتحت أحد أبوابها ونزل منها رجل ثلاثيني ضخم وحدق بي، ركضت باتجاهه وأمسكته من كتفيه وهززته سائلاً أين زوجتي وابنتي أين هم إلى أين أخذتموهما. وإذ بأحدهم يقول لي لا تخف إنهم بأمان وصرخت به أين هم، فأجاب هذه المرة ذلك الضخم قائلاً “لا عاد تسأل طلاع لناخدك لعندن” ووضع لي على رأسي كيس أسود لا يمكن الرؤية من خلاله وقال “هيك أحسن إلك وإلنا”.
لم أناقش أو أتردد كان كل هدفي أن أصل إلى زوجتي وابنتي. سارت السيارة مسرعة واستغرقت حوالي الساعة بتقديري، كانت الطرقات جداً متعرجة وصوت أزيز الرصاص واضحاً. لم أتكلم أية كلمة وكذلك هم فعلوا، كانوا ثلاثة رجال، كانت الأفكار تعصف في رأسي حول مصير زوجتي وابنتي ولم أدرك أن السيارة توقفت إلى حينما نزعوا عن رأسي الكيس فنظرت من حولي وإذ نحن في قبو أحد المباني. توجهنا عدة خطوات حتى وصلنا إلى مكان مفتوح يشبه القاعة، منتشرة فيه الأسرة وبعض المعدات الطبية وكأنه مستشفى مصغر، رحب بي أحدهم فالتفتت إليه وإذ به نفس الطبيب الذي التقيته في المرة الماضية، ركضت إليه وسألته أين ابنتي وزوجتي فقال لا تخف إنهم بأمان سوف نأخذك إليهم وسوف تعمل هكذا دوماً معنا أفضل من أن تفتح صيدليتك للشبيحة والموالين للنظام المجرم. “ألست مسلماً” قالها بنبرة قوية فيها ملاومة. لم أعر حديثه أهمية وكررت السؤال عن زوجتي وابنتي فقال لأحد الرجال خذه إليهما. صعدنا إلى الشارع ودخلنا مبنىً على الجهة المقابلة للمكان الذي كنا فيه وفي الطابق الثاني فتح باب الشقة وإذ بزوجتي وابنتي مرعوبتين من الخوف وقد جفت دموعهما من البكاء، ركضت إليهم وضممتهم ورحنا نبكي كلنا، قال الرجل من خلفي “هذا بيتك الآن حاول أن تسترح لأن غداً لديك عمل شاق” وأغلق الباب.
لم ننم أنا وزوجتي في تلك الليلة ولم نتحدث كثيراً من شدة الخوف والهلع الناتج عن الأحداث التي حصلت والأفكار والتخيلات حول مصيرنا، أضف إلى ذلك القصف الشديد والقريب الذي ظل يدك المنطقة كل الليل. وضعنا علياء بيننا وخضنا حوار دون كلام حيث كانت عيوننا وحدها تنقل كلامنا.
باختصار كان المطلوب أن أعمل في المشفى الميداني، لم يكن لدي مانع في المبدأ، لكن الخوف من المجهول ربما جعلني غير مندفع، وفعلاً في الصباح الباكر طرق الباب وكنت ربما غفوت لدقائق معدودة فانتفضت وكذلك زوجتي مرعوبين، توجهت إلى الباب وفتحته فقال الطارق “هيا بسرعة وصلت للتو عدة إصابات هيا هيا بسرعة”.
نزلت إلى المستشفى وبدأنا العمل ولكن كان كل ما يشغل بالي هو ما سوف تؤول إليه الأمور، عائلتي بيتي وصيدليتي.”
هنا بدأ وجه الدكتور محمد يتجهم وعيناه تحبس الدموع بصعوبة، فأحسسنا أنا وزوجي أن مكروه سوف يحدث وأننا على بعد كلمات من الحديث عن فاجعة ما، ثم قال مكملاً:
“لم يمض على العمل في القبو أو المشفى الميداني سوى خمسة أيام لكنها كانت مضنية لأن دائرة القصف كانت تطال عدة أحياء وكان عدد الإصابات يزداد وصارت المشفى وأسرته لا تتسع فاضطررنا لوضع بعض المرضى على الأرض، كان القصف يقترب شيئاً فشيئاً، وبدأت صواريخ كبيرة تدك منطقتنا وتنزل مباني بأكملها. خفت كثيراً على ابنتي وزوجتي فأنزلتهم معي إلى القبو بالرغم من اكتظاظه بالجرحى”.
انهمرت دموع الدكتور الحبيسة بغزارة وأصبح يتنهد بين الكلمة والأخرى، ليقول بضع كلمات نزلت على مسامعنا كالصاعقة حيث قال:
“لقد تكثف القصف بشكل مفاجئ على المبنى الذي فيه المشفى الميداني وخلال دقائق نزل علينا عدة صواريخ”، ثم صمت عن الكلام وبكى بكاءً شديداً وتضمن بكائه جملة “انهار على رؤوسنا انهار انهار…” وراح يبكي بشكل هستيري ويضرب بكلتا يداه على رجليه قائلاً “علياء ومريم راحوا … راحوا …”.
تجمد الدمع في عيوننا أنا وزوجي وراح قلبي يخفق بشدة وأحسست أن روحي قد فارقت جسدي، دامت هذه الحالة وقت ليس بقصير، الدكتور محمد يبكي وأنا وكأنني في غيبوبة. ومن هول ما سمعت لم أعد أحتمل البقاء فاستأذنت من الدكتور محمد وزوجي وذهبت إلى غرفتي، بكيت وحدي هناك متساءلةً يا ترى كم قصة مثل قصة الدكتور وما خلفها من دماء حصلت على امتداد رقعة البلاد، فبكيت وبكيت وكأنني أبكيهم جميعاً، وأنا أقول بيني وبين نفسي “يا إلهي إلى متى ستبقى قصص أبناء شعبنا تحمل من الحزن والقهر ما لا تحمله الجبال، وهكذا غفوت وأنا غارقةٌ بدموعي.