عزرائیل” الأطفال..

« أنت یا “إیاد”؟ لماذا؟ بعد أن تعلّقت بك واعتبرتك نفسي، اختفیت بطرفة عین؟!».
هكذا كان حال “محمد”، يتحشرج صوته غاصّاً بدمعه. تحدّثتُ مع نفسي، عن ماھیة خلق الإنسان من عدم، وكیفیة طریق العودة، وماذا بعد ذلك.. حتى أخذت المخاوف والشكوك اللیلیة التي لا تنفك عني لحظة واحدة تساورني، مخلفة داخلي ذلك الدمار النفسي والعاطفي والعقلي، لما سیحدث وما حدث، من قبض أرواح المدنیین العزل، ممن فكروا في العیش بكرامة وسلام، في أي ركن من أركان ھذه الكرة الأرضیة، وحتى في الفضاء الخارجي، أو في أي مجرة، من ھذا الكون الفسیح، الذي ضاق في عينيّ عند قبض روح “إیاد”، الطفل الذي لم تكن له حیلة في مجیئه إلى سوریة، ولاحقاً، خرج منھا إلى الشمال مهجَّراً، من دون أي یتسنى له العیش كباقي الأطفال، في ھذا الكوكب المشؤوم من وجھة نظر أي مستضعف.
الموت رحمة له مما كان سیحدث لاحقاً، من دون أن یعرف أي شيء عن طریقة موته، أو وقت موته، أو قبض روحه، أو حتى ما ستؤول إلیه الأمور في بلاد تنام على صفيح ساخن.. لو أنه بقي حیاً لشهد أن دول العالم قاطبة جاءت بكل ما عندھا من أسلحة لمحاربته، وكأنه قنبلة نوویة مجھولة المصدر، تكاد تمسح معالم الكون بما فیه من مجرات وكواكب ومخلوقات.
بين المصدّق والمكذّب، كان “محمد” يتابع هذيانه بـ”إياد” طفل التاسعة، صديقه الذي تعرّف إليه منذ أعوام خمسة: «بعد أن وقع البرمیل المتفجّر وسط ملعب كرة القدم الصغير، في المنزل المجاور لمنزل أصدقائنا الذين نلعب عندهم، صحنا: أین حارس المرمى؟ أين إياد؟ كأنّه كان يجب أن یتصدَّى لذلك البرمیل اللعین، ألم یكن یتبجّح بمھارته في التصدي لأي ھجوم مباغت، مھما كان، ويصيح: أنا الكابتن “ماجد”؟
صدقني عندما رأيت أشلاءه تتناثر في المكان، ھرعت إلى النوم فوراً من دون التفكیر في ما كان أھل الحي يقولونه لي.. كنت أحس بدويّ الانفجار، ويكاد الدم يسيل من أذنيّ.. نمتُ ورحت أحلم بما سنعمل معاً، “إياد” وأنا، ونحن في يفاعة شبابنا.. لم أستیقظ حتى الخامسة صباحاً، ذھبت من فوري إلى ملعبنا الصغير، لأرى البرمیل، یقدم لشخصي آخر التعازي، وأشلاؤه تنادیني للثأر، الذي ما زلت أعتبره دیناً في رقبتي حتى يوم موتي، ھذا إن استطعت العیش بعد هذه الفاجعة التي ھدّت كیاني، ودخلت نقي عظامي واستقرت في رأسي، وقلبي یرفض نسیانھا، واعتبرتھا وصیة يجب تنفیذھا، في أسرع وقت».
لا ذنب لنا في أننا ولدنا في مھب الریح.. من ذلك المصباح السحري الذي یرینا بعض النور، في عمق الظلام الحالك المرعب والمخیف المثیر للریبة والاشمئزاز.
“إیاد”، بعد أن خرج من رحم أمه (الاسم المقتص من رحمة ﷲ)، لم یعرف معنى الرحمة في سنواته الخمس التي عاشھا في “جبل الزاویة”. فقد ولد من رحمین؛ الأول رحم أمه، والثاني رحم الثورة السوریة.. لفظ فمه كلمة “حریة” قبل أن يلفظ “بابا” الذي لم يَعِهِ، فقد استشهد أبوه وهو في عامه الأول.. الغریب في الأمر أنه كان یذكر كلمة حریة، وینسى حكم عزرائیل قابض أرواح الأطفال وزبانيته، الأطفال الذین إن لم یقتلهم فسیثورون ضده يوماً، لذلك تراه یتسلى بأنّاتھم عند الموت، مستبشراً وسعیداً، لا یضیره أيّ شيء، حتى أشلاء الأطفال المتناثرة التي غدت طعاماً للقطط والكلاب الضاریة، والقلیل القلیل منهم ممن دُفنوا بشكل لائق، تم نبش قبورھم، والاستھزاء بجماجمھم وعظامھم… فعلاً ھذا ما حصل بعد الموت یا “إیاد”، وسوف ینبشون قبرك، وینكلون بما تبقىى منك، إذا سقط “جبل الزاویة” في أيديهم.
عزرائیل، الذي أقسم الیمین الدستوري على حمایة “إیاد” وأبناء جيله من أي خطر أو أذى، لم يكتف بإزهاق أرواح الأطفال في “داريا” و”الغوطة” و”بابا عمرو” و”درعا البلد” و”باب السباع” و”كفرنبل” ووووو، بل تبع من فرّ من بطشه إلى الشمال ليزھق أرواحهم.
الأمر واضح، لا یحتاج تأویل “أبو الأسود الدؤلي”، ولا رأي الشیخ “أبو الزندین المنفوخ”، ولا یتعلق بالمعرفة.. الأمر له علاقة مطلقة ونافذة بالھمجیة العلمیة، التي تعتمد العقل، لهدر الكرامة وتكسیر الرؤوس، وتصفیة الأطفال، وإعدام الشیوخ، واغتصاب النساء ومن ثم سحلھنّ.. ھذا ھو الناتج الصحیح المنبثق من ردم الھوّة بین ضدّین أعداء، والضحیة كان “إیاد”، على شكل كبشٍ لكن دون فداء، فللفداء قصة أخرى، فیا أیتھا الروح المطمئنة كنتِ ولا زلتِ تذوقین الویلات، من دون ذنب أو نتیجة تذكر.
يتابع “محمد” العابق بتنهّداته: «لعل “إياد” في مكانه الحالي، “الجنة”، غارق بما لذ وطاب ولا یتذكر ما جرى، وأظنّه یحنّ إلى وطنه سوریة. ما أصعب الغربة یا “إیاد” حتى لو كانت الجنّة… اختلط دمك بتراب سوریة، وخرجت روحك بسرعة الضوء، من أجل كرسي مصنوع من الدم، ودیمومته تعتمد على أشلائك یا صغیري الغالي، وبعد كل ذلك یأتي إرھابي زعیم مافیا عالمية یتصدر “التریند” على مستوى سدرة المنتھى، ویتملق بتحدّثه عن الإنسانیة، وعودة اللاجئین، وإصدار مراسیم العفو عمّن كان ذنبھم، أنھم ولدوا في الشمال السوري أو هُجّروا إليه قسراً.
“إیاد” لن تُمحى من ذاكرتي، أنا روحك الأخرى التي تتمدد، وتتجدد إلى ما بعد الموت، لأراك مكللاً ومجملاً ومحملاً، بالسندس والاستبرق، الذي لم تكن لتطلبه لولا استعجال عزرائیل لقبض روحك، لیریك ما أعد ﷲ للمتقین الذین لم یروا الصح من الخطأ بعد، من نعیم مقیم وشراب سلیم.
“إیاد” لن أنسى، ما حييت، ذلك اليوم الذي خرجنا فيه لنتمشى مع أصدقائنا، ومن ثم لنلعب كرة القدم تأسّیاً بالكابتن “ماجد”، الذي كنت تقلّده، ليأتي برميل عزرائيل- بعد نصف ساعة من اللعب في جو من المرح والفكاھة- من السماء، كالطیور المهابیل ترمينا ببرمیل التقتیل.
الكابتن “إیاد” لم ترَ الحیاة بعد، لتفارقھا بلمح البصر.. ربما هذا أفضل لك من العیش بواقع مریر، یفرض اعتبار عزرائیل فوق اعتبار البشر، وإن كان عالمك البريء المشبع بأحلام لم تتحقق، كان أقصاھا اللعب والأكل والشرب، والضحك العفوي الطفولي».