أبو فراس

ما زال صدى روحه نافذاً عندما خطفه عزرائيل؟
صدقاً عندما أكلف نفسي عناء رعايتهم، وتوجيههم إلى ما هو صواب، أحس بالعبرات تترقرق من وجناتهم حباً وكرهاً. هذا الأمر اعتيادي إلى حد ما من وجهة النظر الإنسانية.
عندما توفي “أبو فراس”، لم يكن لدي أدنى فكرة عن ماهية ما لقيه في مناطق القصف العشوائي، التي أضحت كحدائق الموت، المصنوعة من جماجم البشر. تلك المنطقه التي تحاول، بشكل أو بآخر، أن تتنفس الصعداء لتشعر بشيء من إنسانيتها، لكن سرعان ما تأتي طائرة محملة بالبراميل المتفجرة، تلقي بثقلها على “أبو فراس”، الذي لم يكن له همّ سوى أن يرى أطفاله في أحسن حال؟
بعد أن أقسم “فرعون” اليمين (اليسار) الدستورية على صون البلاد والعباد، أغلب الناس فهموها من منظور، وأنا فهمتها من منظور آخر، أذكر أنه وعدهم بالصون والأمان والاطمئنان، في الدار الآخرة، بينما الدنيا على أية حال دار اختبار، لأننا أصلاً فئران تجارب، في حوزة طاغية تمتع ببعض النفوذ.
لا أزال اذكر عودته سريعاً: «”ابو فراس” أظن أنك نجوت بإعجوبة.. لا تذهب ثانية وإلا فالنهاية وخيمة». للأسف لم يأبه لكلامي، حتى عندما نزح الجميع، أفراد عائلته وأصدقاؤه، أصر على البقاء في منطقته، قائلاً بالعامية: «يلي إلو عمر ما بتقتلوا شدة».. ليلقى حتفه بطريقة مثير للشفقة.
لم أستوعب أنه قد توفي، عندما جائني اتصال بعد أيام، لحضور عزائه، كان عزاءً حزيناً مهيباً، أشبه بعزاء قائد أو ديكتاتور من حيث الكرامة والإباء والشجاعة، والأمور التي قلما تجدها في الأغلبية هذه الأيام، لكن وقع المحظور، وشاءت الأقدار، أن يكلمني ولده الأكبر الذي لم يتمّ سنواته العشرة بعد، وحدثني عن حالتهم المادية السيئة، وعن كمية الصدمات التي تلقوها جراء استشهاد أبوهم المرحوم، علاوة على ذلك، كان نصيب هذا الولد من برميل الحقد سرقة أحد أطرافه، فقد اليد اليمنى.
وهو يحدثني عن هذه المصائب، لم يعد لي طاقة على الاحتمال، فنزلت دمعتي عنوة، وأصبت بعقدة نفسية، لا تزال تلازمني إلى وقتي هذا، كأن حبيبتي تلازمني، وأصبح بيني وبينها مواعيد غرامية، لدرجة أنني أصبحت أكلم نفسي وأشتم حظي.. لكن وبعد طول مدّة، انتهيت من حدادي، وأجبرت نفسي على زيارة عائلة المرحوم “أبو فراس”.. كظمت الغيظ الذي يعشش في قلبي، وتحاملت على رؤية تلك المناظر.. خطر في بالي سؤال: ما ذنب هؤلاء الأبرياء ليقتلوا أو تقطع أطرافهم؟ ولنفرض أن هناك سبباً يستحق موتهم، فالأجدر أن تكون تهمتهم القتل، لكن ما فعلوه كان عدم الانصياع للأوامر والهرب من الحرب، ورفض الظلم، ومن لا يسكت على الظلم سيموت جوعاً، هذه هي المعضلة التي تتركك معقداً نفسياً، وتمشي دون وداع، انتظرت رؤيتهم لكن لم يظهر أحد. سألت جيرانهم عنهم، فقالوا: «لقد تبنّت دولة أوروبية حالتهم الإنسانية، شفقة منهم على حالتهم، ولأن ما تبقى منهم غير قادر على إكمال هذه الحياة من دون معيل». مهما ادعوا الإنسانية يبقى المفهوم بحد ذاته مفقوداً، والأغلب أنه ضاع في خضمّ صناعاتهم الخفيفة والثقيلة، التي يتحفوننا بها، ليثبتوا بالدليل القاطع أنهم بلا إحساس، عندما يصمتون أمام رعب الأطفال ودموع الشيوخ وذهول النساء، من دون أن ينطقوا ببنت شفة.
«حبيبي “فراس” لا تقلق، سيقسو قلبك يوماً.. سيصبح كالحديد.. لكن سيصدأ مع مرور الزمن، بسبب إهماله من قبل الجهات الإنسانية»، كان “أبو فراس” يحدثني من قبره الذي وضعت عليه وردة، عمّا ستؤول إليه الأمور، ظننته يرى المستقبل، عندما أومأ بعينيه إلى الأعلى، وأغمضهما، لقد غض بصره عن هذه الدنيا بما فيها مكرهاً.
الموت قدر واقع لن أعقّب عليه، لكن طريقة موته لم تكن اعتيادية، كأنها “قنبلة الرجل السمين”.. كأنها قنبلة نووية.. لم يكن الأمر بهذه البساطة.. من اعتاد على الراحة النفسية على حساب هموم الناس، يشبه إلى حد كبير طغاة الكرة الأرضية، وجبابرتها الذين كانوا والكائنين والذين سيكونون.
مات صديقي “أبو فراس”، الذي آثر موتاً شريفاً عوضاً عن حياة ذليلة.. وقف شامخاً كالأشجار في أرضه.. لا يمكن أن يكون البرميل المتفجّر حنوناً، ما هذا الصراع وما هذه المحصلة؟ ومن هذا الذي يضحي ويقدّم القرابين لكرسي بأربعة أطراف، على حساب أطراف البشر؟ وما هذه الإنسانية؟ كيف يحصل على شهادة الدكتوراه في الطب؟ لقد أثبت بالدليل أنه طبيب لحالة مستعصية مستحيلة العلاج.. أرسل “برميل المحبة” الجالس على قلب “ابو فراس” للأبد، تحمله طيارات “بوتين”.
معول “أبو فراس” أيضاً أعلن العصيان المدني، ذلك العصيان هو عصيان العبد للإله مثلاً، أي عصيان يستحق الحرق “بجهنم”، وحتى النسخة الأرضية التي تلونت بألوان قوس قزح، أصبحنا نراها نياماً ومستيقظين، ثمّ يأتي شخص لا يعلم شيئاً يأمرنا بالصبر، واحتساب البراميل والصواريخ وكل المجازر الوحشية على الله.
كان “أبو فراس” يضيق ذرعاً بكثرة القائلين والناصحين، ويقول بالعامية: «يلي إلو عمر ما بتقتلوا شدة».. لم يتبقّ شيء لنحزن عليه، حتى الروح أصبحت في الأسواق تباع في أي لحظة، كالبضاعة الكاسدة.. لم يتبقّ خيار أمامه إلا الموت، ففيه راحة نفسية عظمى، حتى قبره سيعامل بطريقة ممتازة من الصديق والعدو، ويستمتع بحقوقه بعد الموت، ولن يمنعه أحد من “الموت بسلام”.. ارقد بسلام وأمان صديقي، فلن تجد العدل إلا في موتك هذا، ومهما كان قاسياً فلن يكون أقسى من حياة أنت فيها ميت مهما فعلت.
“أبو فراس” لم أنقض عهداً كنت قد قطعته على نفسي، لكن ما حدث فوق كتفيّ كان ثقيلاً جداً، لم يكن شيئاً عادياً، أظن نفسي عند موته ستموت من هول الصدمة، نحن من نرحم بعضنا بقتل بعضنا للبعض الآخر، لكن لم يبق سبيل للحياة كالموت؟
“أبو فراس”، كنتُ على دراية بحياتك كلها، أما موتك فلعله من الصعب علي تخمين ذلك الالم المستحيل الذي عانيته.. عجائب الدنيا السبعة، قد مرت على الشعب السوري، بل “حدائق الموت السبعة”.. الرعب المطبق على الناس في يوم كان فيه العيش بثمن مستحقّ الدفع، والموت مجانيّ ورخيص جداً في هذه الأيام.. لا بد من ثمن يدفعه الناس، لقاء عيشهم وهو موتهم، موتهم الذين يعتبر الكفيل لحياة كريمة، لاحقاً بعد الموت.
مت يا صديقي فكل الناس أموات يخطّنا العمر ثم الموت ممحاة!