رسائل الأقدار…
الهمّ يبدأ بالتلاعب بالقلب.. ذاك الشخص كان قبل لحظات في قمة التفاؤل والنشاط والحيوية.. لكنّ الكون بدا سوداوياً فجأةً.
الكثير منا ما زال يجهل سبب عدم نجاحه في حياته، ولا يعلم ما سبب تواكله على غيره وتواكل غيره عليه. عدا ذلك المتذاكي الذي تراه كأنه قد اتقن فن الحياة، وأصبح يعيش في منتهى الاريحية. والكثير من الترهات التي تبدو على وجوه الأكثرية هي رسائل الأقدار ما قبل الكارثة.. كأنها (مقياس ريختر) للزلازل.
«بعد أن أصبحنا في مأمن من غدر (وحوش الزومبي) في الشمال السوري، الذي لم يعدنا بشيء- نحن الذين كنا قد أودعنا أنفسنا بأمان في كنف هذه القطعة العسكرية التركية السورية؛ الغريبة من نوعها التي تكتظ بالحالمين بمستقبل كمستقبل اليابان، بعد أن ألقيت عليهم القنابل الذرّية- تعودنا على نمط حياة معيّن.. أو مربع، وربما مستقيم.. إلى حين دوران الدائرة على المظلوم من دون الظالم المنصور والمنتصر (حسب أقوال مفتي الجمهورية السورية “حسون.. ممحون” الذي تغنى وما زال بأمجاد لا يعلم عنها شيئاً حتى هو)، لعلنا تعوّدنا الأمجاد، بما فيها الاعتقال والتنكيل والاغتصاب وكل ما هو غير معقول، تضاف إلى ما حدث منذ عام (2011) حتى إشعار آخر..
هنيئاً لك يا صديقي خروجك المظفر.. ولا بد أن نلتقي يوماً، فوق الأرض أو تحتها أو بين ضلوعها».
كانت رسالتي الأولى لصديقي “حسان”، النازح الذي تم استغلاله واستغلالنا، ولسان حاله يقول (ربي كما خلقتني)! حاله كحالنا في الشمال السوري، كالتشعّبات المرجانية في أغوار البحر، التي لا تكاد تعلم بدايتها من نهايتها، تائهة كالأقدار التي أحبت أن تتفقدنا.. صديقي حسان، الذي عبر الحدود إلى تركيا تهريباً- كأن السوري أصبح من “الممنوعات”- ليلاً في ذلك اليوم التاريخي، اضطر إلى تحمل أعباء لا يمكن لأحد غيره تحملها، بما حمله من هموم أسطورية في قلبه الكبير، وما لا يحمله إلا كل قلب حيّ، واضطر إلى السير دون النظر إلى الوراء، وكأنه يصعد (قمة إيفرست)، دون طعام أو ماء أو معين.
«لا طعم للحياة، لكنها ليست كالماء، فالماء لا لون له، أما الأحمر فلون الدم، والدم لون الحياة التي تطرزنا بحياكة خلّاقة، لتضفي على ذلك الكفن المغري، ثوباً أبيض، فيه متعة للناظرين.. يرقى أحدنا شهيداً من دون علمه أو حتى إرادته، فالقدر كان قد اختار له الميتة سلفاً دون استشارة طبية أو وصفة دواء من طبيب ماهر، والقدر يخطف بلمح البصر ودون تحذير.
كان ذلك القدر المتربص بمن يعرف ومن لا يعرف، المتمرد على الواقع وعلى البشر، حتى على الزمان والمكان.. سائر الموجودات تقر وتعترف بذلك من وعي أو من غير وعي، كان أكبر رسائل القدر الموت، خروج الروح تلقائياً، من دون استشارة صاحبها كأنه لا يملكها، لعلها ملك الأقدار، الذي يفسر حمق بعضها، فالخلق كان على أساس الخلود الأبدي وإذ به فناء منقطع النظير، للأقدار نفسها ولأي كائن أو مكون موجود في هذا الكون المخلوق.
وأنا أصبحت صديق القدر، الذي يضحك ضحكة أشبه بضحكة “شرشبيل”، التي ذكرتني ببيت “للمتنبي”:
اذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنّن أنّ الليث يبتسم
كان هذا البيت يتحدث عن القدر المأساوي في دائرة الزمان والمكان عموماَ ولا يزال.
أصبحت أراهن على نجاتي من “مرض عضال”.. أو على ربحي مبالغ خيالية في “مزاد الدم العلني”.. أصبحت متأكداً وواثقاً من نفسي ثقة عمياء لا ترى من طريقها شيئا، وموقناً أن الفارق الحقيقي والرسالة الصريحة الواضحة من أي “نظام متجبر” في عمق هذا الكون البديع، أنّ القدر هو “نظام فاجر”، لا يقيم وزناً لأحد في كوكب الأرض عن طريق الجاذبية، وتكون حقوقك الأقدار والمصائب، أما واجباتك فعليك الصبر حتى الموت، راضياً عن هذا القدر، مستسلماً لما يجري، لا يوجد عندك أدنى شك في أن ما يحدث من ترهلات في جسدك وقلبك وعقلك ما هي إلا امتحانات، (من فرع الأمن العسكري) للتأكد من أنك عميل مخلص.
لا يوجد مادة للسخرية في هذا الكون إلا الإنسان، الذي يجري إلى ما سيؤول إليه، دون أي نتائج تذكر، لا يوجد عنده هدف محدد، لأنه لا يجيد القنص مثل هذه الأقدار التي جاءته على شكل رسائل مزخرفة، كلوحة “ليوناردو دافنشي”- “موناليزا” المحتارة، التي بيعت بعد أن رسمها من آلامه، وبعد أن خطف القدر روحه، بملايين الدولارات، تماماً هذا ما يحدث، خيبات أمل إلهية، في عمق هذا الكون تصل الأرض وتصبح أربعة جهاتها، طواعية لمن أراد السير شرط أن ينتهي بالموت الأكيد.. قدراً قاسياً لا مهرب منه إلا اليه؟».
هذا ما صوّرته ريشة صديقي “حسان”، قبل العبور إلى تركيا، ليتمكن من العمل، لعله يستطيع سد دين أهله بعد أن تزوج وأصبح محط نظر أولاده.. وزادني بعد وصوله:
«قبض عليّ متلبساً بالجرم الشاهد عليّ، سيراً على الأقدار، عازماً على خيانة وطني الأب والأم، الوطن الذي كان كل شيء إلا وطناً، والحياة فيه كانت كل شيء إلا حياة… تعزى الى “قبائل الهنود الحمر” كتطهير عرقي أو جذري، أو كلها رسائل من الأقدار تخبرنا أن نصبح طيوراً تهاجر خوفاً من صياد، ينتظر سرباً من الأسراب يحلق فوق سمائه تلك، لعله يستطيع صيد أكبر عدد ممكن منها.
ما زال الشمال السوري المشؤوم، مع المزيد من المعاناة وسوء الخاتمة في نهاية كل يوم وكل شهر وكل سنة، وأطنان من دموع النازحين المترفين فقراً…. في متاهة أقدار لا يعقلها عقل أبداً، لعل الذنب كان منذ “آدم”، هو ذنب يستحق الوقوف على أطلاله، بعد مقتل “هابيل” على يد “قابيل”، والأب وقف متفرجاً دون أن يحرك ساكناً مع “حواء” التي كانت غير آبهة، بما يحدث… تلك هي رسائل الأقدار التي عرفتها أول حالة قتل في تاريخ في هذا الكوكب، لم تكن حالة حب بل حالة قتل.. إذن فالقتل سنّة بني آدم , والدم الذي يعيشون عليه.. ومن يحكم بالقتل، يحكم باسم الرب والقدر».
هذا ليس مستغربا أبداً يا صديقي.. كان كلامك آنفاً، تأويلاً لما يحدث في الشمال السوري، على شكل رموز رياضية، يفهمها العقل الباطن على أنها سرد جميل, يقدَّم للقارئ على شكل رسائل أقدار تحذيرية، مثل “ممنوع الاقتراب والتصوير.. خطر الموت”، الموت الذي يعتبر تهديداً وجودياً لمن يهمه الخلود في هذه الدنيا، بعيداً عما حدث وسيحدث بعد الموت، والفناء.. عدا عن تلك الدودة التي ستكون تواقة لوصول أي أحد إلى باطن الأرض لتتكفل بعقابه أو ثوابه، وفي الحالتين ستكون محظوظة! فبعد انخفاض درجة حرارة الدم وتعوّد الجهاز العصبي على الحس المجرد من أدنى انسانية، ستصبح رسائل الأقدار حتمية واضحة، من إمبراطور صيني يأمر ببناء “سور الصين العظيم”، لعلمه أن “وكالة ناسا” ستصوره من الفضاء الخارجي، ليوفر عليها عناء المجيء إلى الصين ومنع دخول الأغراب اليها.
تلك بعض من رسائل الأقدار المبهمة، التي سيجهد علماء الآثار وعلماء الفضاء بفك رموزها، ومعرفة شيفرة الحياة والموت، لانتصار الشر على الخير، أو الخير على الشر المطلق المطبق على أي فقير معدوم في الوجود، لا يجد رغيفاً يأكله، في عالم مملوء بما لا ينضب أبداً. رسائل الأقدار لا ننفكّ نتلقاها…. ولعله عند حلها سيتسنى لنا الخلود الأبدي.