ميساء في بلاد العجائب
«بمجرد إغلاق باب الخيمة أومأت لي ببسمتها الأخيرة».
فمن الناحية العلمية، الدماغ يرسل إشارات تحذيرية إلى نفسه قبيل النهاية الأكيدة والحتمية. وهذا دائماً ويومياً يحدث مع عمي “أبو محمد، قاسم” الكثير الأولاد، الذي رزقه الله بالمال والبنين.
«في “مخيم الهبة” في الشمال السوري في أقصاه، عندما كنا في فصل الصيف الماضي، استذكر أمامي “ميساء” ابنتي- يروي لي ما حدث باعتباري صديقه المقرب، ويتابع- كنا جالسين في قريتنا قرب مدينة “حلب” جانب صهريج الماء. كانت ميساء مع أولاد الحي، تلعب قليلاً من النهار…»، سكت، ولم يكمل، فقلت له: وبعد يا عم؟ فبكى، ولم يخبرني، بحجة أنه يريد أن يسقيني الشاي، لأذهب، ويبقى محاصراً في ذاته، كما هو حاله محاصر في “الشمال السوري”، ولم أدرِ ماذا سيحدث لو تكلم، أما كان ذلك أفضل له ولقلبه المكلوم على ما يبدو؟ وأصبحت أفكر في هذا الموضوع أكثر من مرة في النهار الواحد، والفضول لم يدعني أرتاح، أريد أن أعرف.
عدت لزيارته في نهار الجمعة، لكونها عطلة العاملين، وراحة المتألمين، فاستضافني بحفاوة لا مثيل لها، وقال لزوجته الكبيرة في السن، أن تصنع الشاي كالعادة، فلم أعرف ماذا أقول، وكيف أريد أن أنتزع منه هذا السر الكامن في أوردته. فقلت: عماه أتذكر عندما حدثتني عن “ابنتك ميساء”؟ كيف حالها؟ وارتبكت قليلا. فقال: «يا بني لا تزد من أوجاعي، فما في داخلي أكبر من يحكى وأصغر من أن يفعل»، كأنها أحجية، فقلت: عماه أرجوك أن تخبرني، هل “ميساء” بخير؟ فقال: «نعم، لكنها مبتورةالساقين… عندما كانت تلعب قبل نزوحنا، باغتتنا طائرات الروس، بالقصف.. كانت تلعب هي وبعض الأطفال، فاستهدفتهم كأنما أصبحوا خطراً على العالم». تنهّد وصمت. فقلت له: أين هي عماه، أنا لم أرها؟.. كان في قلبي غصة قهر ومقت، وعلّة لا تفسر أبداً.. قال: «إنها في تركيا، فقد سمعت عن الأطراف الصناعية للأطفال، واستطعت أن أشتري لها ساقين وأقدام أيضاً، بمبلغ ألف دولار، من أفضل الأنواع على الإطلاق، حسب كلام الطبيب الذي سيضع لها ساقيها الاصطناعيتين».
اعترتني الكابة على الفور، وبدت جلية في وجهي، وما عرفت هل أضحك أم أبكي، هذا هو فعلاً المضحك المبكي. قلت له: عماه، والله ما قلت من كلام وما حدث مع “ميساء” هو أمر جلل ومصاب عظيم.. وكل ما تمر به عظيم باعتبارنا، شعب عظيم.. صمتّ، واحتسيت الشاي.. وقمت بعزيمته إلى بيتي هو وزوجته، وقلت له: عماه أنت معزوم إلى بيتي على الغداء، وأنا من سيأتي إليكم لأجلبكم بسيارتي وأوصولكم بعد نهاية الزيارة إلى خيمتكم الجميلة، فقط حدد لي متى ستشرفونني بزيارتكم.. وسوف آتي لزيارة “ميساء”عندما تأتي من “تركيا”.
انصرفت والدموع في قلبي، وفي عيني الأسى. وما هي إلا أيام حتى اتصل بي قائلا: «ابنتي في البيت، لقد جاءت سليمة ولله الحمد». أسرعت بالذهاب إلى بيت صديقي “ابو محمد”، فأخذني إلى “ميساء” حيث كانت في خيمة “جدتها، وإذ هي طفلة لم تتجاوز خمسة أعوام، ولا تجيد النطق والتحدث بعد. قبّلتها، وقلت لها: مرحباً يا صغيرتي؟ فباغتتني بابتسامة بريئة وغير مطمئنة. استرقت النظر إلى قدميها الجديدتين، فوجدت أنني مصاب بأزمة نفسية وصدمة فكرية.. قاهرة هي الشدائد، منها ما يسمع ومنها ما يقال، ولكل نوع أشكال وألوان، ماذا أقول وماذا أفعل؟ إن جئت لمواساتها فستزداد حالتها سوءاً على سوء، وأنا في حيرة مما أقول.
جاءت في خاطري فكرة لا بأس بها، استأذنت صديقي “أبو محمد” بأن آخذ “ميساء” في نزهة لا تتعدى الساعة من الزمن، فأذن لي. انطلقت بها إلى محل ألعاب قريب، وقلت لها أن تختار ما يعجبها من اللعب، فأبدت إعجابها بلعبتين، لعبة البنت ولعبة المكعبات، اشتريتهما لها، ورجعت بها إلى بيت أبيها. لمّا رآها، قال: «لا تتعب نفسك يا صديقي، لماذا تغلب نفسك؟». فقلت له: أخي “أبو محمد” هذه هدايا بسيطة، ولا تضاهي عندي هذه الابتسامة على وجه “ميساء”. شكرني وانصرفت.
ستة أشهر ونيف.. تواصلت خلالها مع عدد من أصدقائي الأتراك والسوريين، منهم “أبو درويش” التركي الأصل، وشرحت لهم حالة “ميساء” المأساوية، وفقدانها ساقيها بفعل تجربة الأسلحة الروسية في سوريا بدلاً من تجربتها في منطقة سيبيريا المتجمدة. عرفنا أنه على عاتقنا تجربة الدعم النفسي والمادي والاجتماعي لـ”ميساء” المقعدة، باعتبارها الخطر القادم من “الشرق” على ذلك “الغرب” المتحضر المعروف بالإنسانية والشعارات البراقة.. قمنا بمساهمة ومساعدة بعض الشخصيات في تركيا، بالحصول على سماح لـ”أبو محمد” وعائلته، بمن فيهم “ميساء”، بدخول تركيا، عن طريق مبلغ من المال جمعناه لهم في تلك الفترة، واستحصلنا لهم على الموافقة بالسفر إلى سويسرا، إلى قرية نائية في أحضان الريف السويسري، يغلب عليها طابع أهل الريف، ملأى بالحيوانات الأليفة، بدلاً من الحيوانات الوحشية الطائرة التي أتت على ساقيها.
وما هي إلا أشهر، حتى تم سفرهم إلى وجهتهم سويسرا، في قرية متطرفة عن سائر المدن السويسرية. وحدث ما كنت أتوقعه وأفكر به، من خلال ما كان يرسله لي “أبو محمد” من صور وفيديوهات.. كانت “ميساء” تلعب تارة جنب بركة الماء وقت الظهيرة، وتارة تباغتها طيور الدجاج والسنونو باللعب معها، رأيتها وقد نسيت قدميها اللتين فقدتهما حقاً، وكأنها خلقت من جديد.. فانسكبت دموعي، تروي، ذلك الألم المستعصي منذ زمن في قلبي، ليزهر حقولاً تلعب فيها “ميساء”. وأخذت عهداً على نفسي، بأنني كفيلها، إلى يوم موتي، حتى بعد وصولهم إلى سويسرا.
وأضحى تعجبي!!، لغةً على أية حال، أشكالهم بشر، وأفعالهم لا تفعلها الحيوانات، فإلى متى يمهلهم الله ويتركهم يعيثون في أرضنا فساداً؟
لا تقلقي “ميساء”، حتى لو كنتِ في المنفى، لا شك أن ما ترينه أفضل مما في وطنك الأم، لا شك مطلقاً، في هذا الحي السويسري، ملعبك يا صغيرتي، فالعبي وقرّي عيناً، وانسي ما مضى، فأنت الآن في بلدك، ومهما كان لن تري إلا وجوه السعداء ولو مظهراً، ستجدين بشراً، لا يوجد عندهم حرب، ولا قصف أو قناص بالمرصاد لمن يوشك أن يوقد ناراً في الصحراء، على العكس تماماً، ستجدين الواحات الملأى بالغزلان، وستجدين الحيوانات تعيش بسلام فضلاً عن البشر، ستجدين الطعام والشراب والمسكن والملبس، ستجدين أي شيء تفكرين به أو تحلمين، هنا يا “ميساء” بلاد العجائب، لا تستغربي فهذا العالم به قطبان: شمالي وجنوبي.. سالب وموجب، عيشي هناك بسلام، ولا تفكري إلا بالسعادة، يا صغيرتي.. لا تحزني، حتى ما قمت به من أجلك، لم أجد له معنى في قاموس الإنسانية، لقد كان واجباً فقط، صدقيني، لم أعرف الراحة ولن أعرفها إلا عند موتي…
أتمنى أن تكوني كما حلمت يوماً، بعيداً عن ويلات الدنيا.