البحث عن الهدف
الحرب، تلك الكلمة العابرة كلفظٍ لمجموعة أحرف، لكن ليست العابرة بتلك السهولة للواقع. في الحرب نحن العابرون وهي الثبات، ما إن تحط رحالها في مكان ما، حتى يبدأ سكانه بالعبور خارجاً إلى السماء، أو إلى بلادٍ جديدة، أو عبور السجون والمعتقلات. لا يتصرف رصاص الحرب كالعابر، بل يفرض نفسه على المكان، ونغدو نحن الطارؤون عليه، ليخترق الأجساد والأحلام فلا يترك شيئاً إلا ويذرره. في الحرب يتقلص حلمك وهدفك إلى مجرد النجاة بجسدك وقوتك اليومي، إذ تصبح أنت وجسدك الهدف لا الهادف.
يسألني موظف الصندوق، وهو يهم بتسليمي مرتبي من العمل في الشركة:
هل تمانعي أن نخصم جزءاً من مرتبك كأجور تنظيف المكان؟
لا، لا أمانع طبعاً.
نعم هكذا أجبت، بعد أن ترددت للحظات قصيرة جداً، فكرتُ خلالها لماذا لا تكون تلك الأجور على الشركة؟ لكني رأيت فيها عملاً جميلاً أيضاً أن أساهم من مرتَّبي في أجور التنظيف.
حسناً قد وافقت، ومن ثم استلمت مرتبي وخرجت، لكن وعلى الرغم من بساطة الموضوع ووضوحه، فقد ألقى بي في دوامة تفكير، من مثل: طالما أن هدف عملي هو الحصول على النقود، فلماذا قبلت الاستغناء عنها؟ هل هناك هدفٌ أهم من أن تحصل على النقود؟ ربما، فقد نسينا بعد الحرب ما هو هدفنا.
لطالما كان راتبي هو نتاج المقايضة التي تدخل بها في العمل، أي أنا أقدِّم خدمتي كمهندسة معمارية، والشركة تعطيني ثمنها على شكل نقود. تلك النقود التي ستعني إمكانية الحصول على الطعام واللباس والسكن والتواصل مع الناس والمشاركة في نشاطات… إلخ.
أي أن العمل هو وسيلة الحصول على كل تلك الأشياء، فلماذا أقبل الاستغناء عنها أو حتى عن جزءٍ منها؟
ليس من السهل بالطبع أن تهجم تلك الأفكار على رأس إنسان في لحظاتٍ قليلة، لكن ربما كانت تلك لحظة تفردٍ، جعلت من النقاش الذي كان يدور في خُلدي مؤخراً يكتمل ويتحول إلى تلك التساؤلات الجديدة.
إذ كان قد انتابني شعورٌ منذ أيام عديدة بالملل والإحساس باللاجدوى، لم أعد أدرك ما كانت عليه طموحاتي في الحياة قبل الحرب، وكأن رصاصها أصاب مخيلتي وطموحي في مقتل، فلم يعد اهتمامي يتعدى ترتيب تفاصيلي اليومية وتكرارها.
أستلم نقوداً تكفيني لمصروفٍ لا بأس به خلال أيام الشهر، وأحياناً قد لا تكفي لكامل الشهر. لكن المشكلة ليست في النقود فقط وعدم كفايتها بل ربما في عدم إحساسي بمعنى ما أقوم به من عمل وصرف نقود وقضاء الوقت مع الأصدقاء، ومن ثم العودة إلى المنزل والنوم استعداداً ليوم عملٍ جديد.
على الرغم من أهمية العمل وما يقدمه لي من نقود في حياتي، إلا أن العمل ونتاجه المالي ليس الهدف الوحيد فيها. نعم ذلك ما توصَّلت إليه خلال صراع أفكاري المتناقضة في الآونة الأخيرة. ولذلك فكَّرت في أن أقوم بتغييرٍ ما، بعد أن شعرت بالضجر من حياتي هنا، وبعد أن خفت وطأة الحرب وبدأت تبتعد عنا وتفسح مجالاً لاستعادة التفكير من جديد. لذلك فقد قررت التواصل مع صديقتي في الإمارات لسؤالها عن الحياة هناك، علني أحظى بفرصة سفرٍ إليها.
لكن صديقتي التي لم تجد وقتاً لترد على رسائلي نتيجة انشغالها غالبية اليوم بعملها، جعلتني أعي أن الهدف الذي أبحث عنه غير موجود هناك، بل هو متأزمٌ أكثر، فأنا أريد الهرب من دوامة العمل والمال، لتُراني أكتشف أن الدوامة هناك أكبر، أي عمل أكثر ومال أكثر، لكنها ذات الدوامة التي لم تمنحني المعنى هنا.
وعليه عزفتُ عن فكرة السفر إلى الإمارات، وقررت البحث عن السفر إلى أوروبا على الرغم من صعوبة تأمين ذلك اليوم، لكن صديقي وجَّهني إلى أنه يمكنني أن أقوم بالدراسة هناك، ومتابعة دراسات عليا في الهندسة.
أعجبتني الفكرة وبدأت البحث فيها، ولما لا؟
نعم أسافر إلى هناك وأعود إلى مرحلة الطالبة والدراسة، والتي كانت من أجمل أيام عمري، تلك المرحلة التي لا تحمل فيها أيُّ هموم، لا عليك سوى التمتع بالتشاركية التي تمنحها الدراسة والنشاط الذي يضفيه الطلاب على الحياة الجامعية. نعم كانت أجمل أيام حياتي تلك، لكن ماذا بعد ذلك؟ وهل التفكير في العودة إلى مرحلة سابقة هو نكوص وهروب من الواقع؟
أن أفكر في العودة إلى مرحلة الدراسة يعني أن هدفي ليس الدراسة بل الهرب من الواقع إلى مرحلة اللاتفكير مؤقتاً، الهرب إلى مرحلة ما قبل الحرب، وهي مرحلة وستنتهي حتماً، فماذا بعد ذلك، ستعود دوامة الحياة لتسألني ما هدفك؟
يقول صديقي ذاته أنه يفتقد للحديث مع الناس هناك، ويشتاق دوماً لنشاطاتنا المشتركة السابقة هنا، بل بدأتُ أشعر بحماسته لفكرة سفري أكثر مني، وكأنه يرى في سفري إمكانية إعادة لم شمل أصدقائه إليه. لكن وإن سافرت إلى هناك فهل سيكون مصيري في أن أسعى مثله إلى لم شمل باقي أصدقائي إليَّ؟
يستطرد خيالي في التفكير أكثر وأكثر، لطالما صديقي يفقتد لنا هناك، فلماذا لم يبق هنا إذاً؟ حسناً لنقل أنه غادر لأهدافٍ أخرى، كالبحث عن الأمان والعمل الجيد والمال، فلماذا لم يكتفِ بهم إذاً ويكوِّن علاقات صداقة جديدة بدل البحث عن التشاركية في صداقات الماضي؟
كانت أمي تقول لي حين بدأت الدراسة في الجامعة كلما عدت إلى المنزل: ” إجت المهندسة”، أشعر بالخجل من ذلك الوصف وأجاوبها : “طولي بالك لخلِّص دراسة” فتجيبني: “أنا شايفتك مهندسة من وقت نجحتي بالبكالوريا”.
لم أكن أناقشها كثيراً في ذلك فهي أم وترغب في أن تراني كما تحب، لكن الأيام كشفت لي ما خلف ذلك الكلام من معنىً أعمق تشعر به أمي وإن لم تكن تقوى على التعبير عنه، وهو أن الهدف ليس ما نسعى إليه، بل ما نؤمن به ونحياه. فما الذي أؤمن به أنا؟
أعود إلى التفكير بأيام الجامعة حيث أراها اليوم هادئة وجميلة، على الرغم من أنها لم تكن دوماً كذلك بل ربما لم تكن أبداً كذلك. لكن الحياة الجامعية لم تكن أمامي أطاردها، بل كنت أعيشها وأؤمن بها، فقد كنت أحب الهندسة التي أدرسها وأحيا تلك العلاقة معها، مع وجود أهدافٍ أخرى كالحب والراحة المادية والتفكير بمستقبلي العملي، وهذه الأهداف كانت تؤرقني، ربما لأني كنت أطاردها حسب تعبير أمي. واليوم وحين أنظر إلى أيام الدراسة، أنظر إليها بسكون فلا أشعر بملاحقتي تلك للأهداف وهو ما يجعلها ربما تبدو أكثر هدوءاً وسعادة من ذي قبل.
لم أكن أكترث سابقاً لكلام أمي الدافع إلى الهدوء، أو ربما لم أكن أدركه، بل كنت أملُّ من نصيحتها الدائمة: “وقفي عالأرض وإهدي، وبعدين فكري”.
لكن وفاة أمي قبل عامين أخرجتها من علاقتها بتفاصيل الحياة اليومية معي، إلى روحٍ، وفقط روح تحيا بصدى الكلمات.
نعم إنها روح أمي التي بتتُّ أحاورها وأستمع إليها حينما أريد، وربما بذلك صار كلامها يخرج من داخلي لا يطاردني من خارجي. وكأنِّي هنا وصلت إلى فهم ما كانت تقوله عن الهدف في أنه ما أؤمن به وأحياه لا ما أسعى إليه وكأنِّي أطارده.
تسعى صديقتي يومياً وراء العمل والمال في الإمارات ولكنه ليس غايتها لذاته، ويسعى صديقي في أوروبا إلى الحصول على الجنسية ولكنها أيضاً ليست غايةً بذاتها، وأسعى أنا إلى تغيير نمط حياتي الروتيني لكن التغيير ليس غايتي بذاته، فماذا يكون الهدف إذاً؟
يصف لي عمي القادم من أميركا اللاتينية الحياة هناك، إذ يقول أن الناس في تلك البلاد لا يهتم غالبيتهم بالمال لأجل المال، ولو أرادوا ذلك فعلاً لاستطاعوا تجميع الكثير منه، لكنك لو زرت منطقة من المناطق الشعبية لوجدت أنهم بالكاد يحصلون على القليل حتى ينصرفوا إلى شراء مشروبٍ ما والجلوس مساءً أمام بيوتٍ بالكاد تقوى على إيوائهم، وبملابس لو رأيتها على أحدٍ عندنا لشعرتَ بأنه أفقر إنسان قد تشاهده في حياتك. لكنهم يبدأون بالغناء والرقص حفاة وكأنهم أسعد أناسٍ في العالم. مع العلم بأن أولئك الناس باتوا قلة أيضاً بعد أن تطورت بلادهم وأعمالهم وانشغل الغالبية في العمل وجمع المال.
تطورت؟ أفكر في تلك الكلمة، نعم تطورت أي تغيرت، أو انتقلت من حالة ما إلى حالة أخرى مغايرة، فودَّعت استقرارها الذي كانت تحياه ببساطة، وذهب كلٌ يلاحق هدفه الخاص ويطارده.
نعم الهدف الخاص ذاك الذي ينوس في رأسنا ولا يترك مجالاً للراحة، فمرحلة الدراسة لدي كانت جميلة أيضاً لأنها منحتني ذلك الشعور التشاركي العام مع الكثير من الأصدقاء، وربما كان ما يؤرقها أحياناً انشغالي ببعض الأهداف الخاصة. لكن الإنسان بفطرته يدرك أن ذلك الهدف الخاص ما هو إلا جزء من حياته ولا يجوز أن يسيطر أكثر، عليَّ أن أعمل وأكسب المال وأخرج مع أصدقائي، لكن ليس ليغدو هدفاً صنمياً ألاحقه كجزءٍ من دوامة الأهداف، بل من أجل أن احيا ذلك وفقط أحياه قدر المستطاع.
انتهت الحرب، وبات بإمكاني استعادة شيئءٍ من توازني السابق، وأن أحيا ذلك التوازن، لا البحث عما وراءه.
“الهدف هو ليس ما نسعى إليه، بل ما نؤمن به ونحياه” تقول أمي ذلك بين كلماتها، وأقول أنا كفى تفكيراً، حسناً هيا لأستمع قليلاً إلى الموسيقى وأغفو…