رحلة على القارب البطيء

تحذير صحي: التدخين سبب رئيسي للسرطان وأمراض الرئة وأمراض القلب والشرايين.
جلس شخص، لنفترض أن اسمه سين نو ريكيو، وأنه عاش بين عامي 1522 و 1591، في مكان هادئ. أشعل نارا، وأخذ ينصت إلى صوت الماء وهو يغلي. ثم راح يدق مسحوق الشاي الأخضر بقضيب من الخيزران. وبعد أن أعد مشروبه السحري باستقامة ظهر وحركات بسيطة، أخذ يشربه على مهل. تمتم بعد عدة رشفات: “رغوة الشاي ورائحته تهدئان عطش الجسد والفكر”. قال بعد مزيد من الرشفات: “لا يتحقق اكتمال الروح في البذخ، فالجمال أليق بالتقشف”. عند الكأس الثالثة، أو ربما المئتين، قال: “لا بد من التسليم بدور الزمن كعامل للتدهور”. وحين فرغ قال: “يمكن للصحوة أن تتحقق عبر مزاولة شعائر الشاي”. وتذكّرَ عندها مقولة أحد شيوخه: “طريق الشاي لا باب لها” وشعر بأنه يفهمها لأول مرة.
قلت: هذا مشهد لا تنقصه غير سيجارة. وأرادت يدي أن تتحسس طريقها نحو واحدة، ثم تذكرتُ أنه مضت خمسة أشهر دون أن تستحم رئتاي بشيء من القطران، فارعوت يدي وأحجمت. ما من تبغ في اليرموك، الحصار ضرب بِجِرانه وأناخ بكلكله.
سيقول حسين: “ليت أنّا محاصرون في قطاع غزة! في أقل تقدير، البحر من أمامك والتنسيق الأمني من ورائك”.
سيسمع أبي أميرَ قطر في الأمم المتحدة: “أقف هنا وبلدي وشعبي يتعرضان لحصار جائر مستمر…”، فيقول مخاطبا إياه: “يلعن أبوك عرص! هو هذا حصار؟”.
أما أنا فوددت لو أني محاصر في جمهورية ترينيداد وتوباجو، بل ربما في بنسلفانيا، في مزرعة للتبغ. سيكون البرّاد خزانة للثياب، والسرير ثلاجة للموتى، والعصافير نعيا للآمال، وساعات الحائط صحونا للهواء، والصحون تتضور جوعا، والصيدلية فارغة من الأدوية… لكن الخضرة ممتدة نحو الأفق. سأستطيع إذن أن أخلو بصديقتي الفموية الرئوية، صديقة من صناعة منزلية مئة بالمئة تتدرج بي في مقامات النيكوتين، أدخنها وتدخنني، ألتهمها وتلتهمني -هي اللاحمة وأنا النباتي- في عبادة مشتركة، إلى أن نصيح من وجدينا: الحب فعلُ تَسُرطُن.
لكن ذلك كله حدث فيما بعد، في البدء كان الارتفاع المطّرد لأسعار التبغ. وكان هذا الارتفاع نوعا من الإشارات الإلهية يوحي بما هو آت، لكن صدري الذي لم يعرف برد اليقين يوما لم يحسن التقاط تلك الإشارة. المرة الوحيدة التي عملت فيها هوائيّاتي كانت حين استلمنا أول سلة غذائية مع مطلع عام 2014، قلت لأخي: يبدو أننا علقنا. كان ذلك أشبه باللحظة التي تأسست فيها الأونروا، فأيقن الفلسطينيون ساعتها أن لجوءهم صار “حقيقة حية خالدة” مثلما هي القومية في أدبيات البعث. وكان التقاط تلك الإشارات وحسنُ تفسيرها يشكلان في كثير من الأحيان الحد بين الموت والنجاة، والفارق بين الفقر والثراء، والفاصل بين أن تكوني أديبة فاشلة وأن تفتتحي مشروعا تجاريا ناجحا في إسطنبول. وقد تفهمين الآن لم كتبت مرة أن اليرموك كان “…قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها، حديدا تافها لبعضنا، ومنجما من الذهب لبعضنا”. وقِيسي ما شئت القياس، وعمّمي ما شئت التعميم.
في زمن مثل ذلك، عثر أخي في إحدى حملاته التنقيبية على باكيت دخان. أنا متأكد أنه عثر على اثنين، لكنني حين سألته عن ذلك وأنا أعد العدة لكتابة هذا النص أكد لي أنه كان واحدا. أين عثرت عليه؟ في مطبخ جيراننا، كان مخبأ بعناية بين الطناجر. كان محمود يدخن دون علم والديه إذن؟ كان محمود يدخن دون علم والديه. باعه أخي حينها بعشرين ألف ليرة، وأعطى الوسيط ألفين. وهناك علامة تؤكد لي أن الدولار كان يعدل حينها مئة وثلاثين ليرة، لكنني سأحتفظ بها سرا لنفسي. وأما من لا يملك المال فلا يزال بوسعه الحصول على السجائر مقابل براد مثلا أو غسالة أو أثاث غرفة نوم أو أي شيء ما عاد له استخدام. وماذا سيفعل الطرف المقايض بالبراد والغسالة؟ بليز! سيفوبليه! لا تسألي أسئلة تدحض يقيني في أني الوحيد الذي لا يصلح للاقتصاد. ثم ما شأنك به؟ لن يعدم حيلة. ولو لم يكن يخطط لشيء، ما كان ليرضى بمثل هذه المقايضة: قريبا يفتح الحاجز وأبيع البراد بالسعر الفلاني. لكن الحق أقول لك: جيد أن أخي هو من عثر على الباكيت، لا أنا. كنت سأدخنه دون تريث أو تردد، ما كانت نفسي الدنيئة لتفكر ب”وجبتنا لهذا اليوم”.
ثم دخن أهل اليرموك الأراميع. والأراميع جمع أرموعة كما جاء في معجم الحصار. ولعلك تبحثين الآن فيما بين يديك من قواميس فلا تجدين الكلمة، لذلك أعملتُ حنكتي اللغوية من أجلك واعتبرتُها تصحيفا فونيميا لكلمة أرومة. والأرومة هي الأصل والنسب، وهي أصل الشجرة، أي ما يبقى منها في الأرض بعد قطعها، أو ما يبقى من السيجارة بعد احتراق معظمها قبل أن تبلغ الفلتر. ولست أملك دراسات إحصائية تدعم أطروحتي هذه، لكني أتصور أن سيجارة “الحمرا” كانت التبغ المفضل لأهل اليرموك إلى ما قبل مجزرة الميج. أفترض ذلك لأنها ثقيلة، رخيصة، بطيئة، ومخلصة. وهي مخلصة ليس لأنها صناعة البلد فحسب، وليس فقط لأن اسمها يحملك إلى قصر الحمراء، بل لأنك إن تركتها جانبا تكف عن الاحتراق. هي لا تريد أن تحترق إلا فيك، “وأما نحن داخلها فنزداد اختناقا”، أو احتراقا. صفات في مجملها تختصر الوطن في تفاصيله، وتناسب ذوي الدخل المحدود. ولك أن تتخيلي أن المواطن اليرموكي في الظروف السوية، أي قبل “الأحداث”، كان يدخن حمراءه، ثم يصاب بسأم وجودي من طولها، فيرمي بقيتها الصالحة المخلصة في طرقات مخيمه الذي كان منفضة سجائره الكبيرةَ الأثيرة. وهكذا انتشرت ظاهرة الأرمَعة، أي التجول في الحارات والشوارع واصطياد ما تيسر من أراميع، واستخراج ما فيها من تبغ غير محترق، وتشكيل ذلك كله كهيئة سجائر جديدة.
ولما نفد احتياطي المخيم الاستراتيجي من الأراميع، دخنوا أوراق الباذنجان. والتبغ – مثل الباذنجان- ينتمي للعائلة الباذنجانية الكريمة، هو والطماطم والبطاطس والفليفلة الحارة وسواها. والباذنجان – مثل التبغ- يحوي النيكوتين، حتى إن تناولك عشرة كيلوجرامات من الباذنجان على فطورك سيغنيك عن سيجارة الصباح.
كم أدهشتني معارف أهل اليرموك في ذلك العصر البديع! كانوا ذوي علم بالبتروكيماويات حين أحالوا البلاستيك وقودا سائلا، وأولي معرفة بقوانين الطاقة حين ولّدوا الكهرباء من دراجاتهم الهوائية، وعلى تبحر لغوي حين أطلقوا اسما على كل شيء وكل ظاهرة، وها هم الآن يكشفون عن معرفة ثرّة بخصائص الأعشاب والثمار. لو كان لي أهل مثل أهل اليرموك ما حلّ بي ما حل! لكنّ لو تفتح عمل الشيطان. وفتح علينا الشيطان من صنوف العذاب ما جعل الموت أمنية لنا، على أن “أبو العبد” كان ممتنا أن أنقذنا حياته. للأمانة، كان أكثرنا يريد الموت لكنه لا يزال يرغب بالعيش قليلا ليرى ماذا يخبئ لنا المؤلف في الحلقة الأخيرة من مسلسله، وكنا نخالها قريبة جدا، لذا كنا ممتنين لكل ما أو من يؤخر في أجلنا ساعة أو بعض ساعة. كنا نقف على ذلك الوتر الضئيل المشدود بين غريزة البقاء والرغبة في العودة إلى حالة الخمول اللاعضوي. وقد عرفت أن “أبو العبد” يقاتل مع فصيل ما، وأصيب في إحدى المعارك برصاصة في بطنه. وماذا يحتاج الجرّاح معلومات أكثر من هذه؟ أدخلناه مسرح العمليات في مشفى فلسطين. وكانت عمليته صعبة ذات اختلاطات، وتمت على مرحلتين، ومكث على إثرها في المشفى ردحا من الزمن أكسبه وأكسبنا خبرة طبية جيدة.
ومن امتنانه، أرسل لي بعد تعافيه يخبرني أنه يحتفظ من أجلي بنصف كيلو من الرز “وكلّه من خير الله، وأنت لك سابق فضل علينا”، وأنه لولا عارض ألمّ به لأتاني بالرز بنفسه. قلت: هذا عرْض تُضرب إليه أكباد الإبل. فامتطيت إليه الدراجة “عذافرة” التي تشبه ناقة طرفة بن العبد. وأكرمَ أبو العبد مثواي، ووضع قبالتي صحناً فيه بقلاوة وبلّورية وعش البلبل و”كول وشكور” (كل واشكر!) وأمّا بنعمة ربك فحدّث. لماذا أقص عليك كل هذه التفصيلات؟ إنما أريدك أن تحيطي بالجو علما كأنما عشته معنا، أريد أن أشرح لك غائبي حتى كأنك حاضرة تشهدينه.
كان محظوظا في تلك الأيام من وجد على مائدته بضعة أرغفة من خبز العدس، أو طبقا من سلطة الفجل، أو ثلاث ملاعق من الرز. أما تلك الحلويات الإباحية فكانت حقا من الكائنات التي نسينا وجودها، كانت ظواهر متعالية لا يمكنك التفكير بها، أشباحا لا تزورك من بين ما يزور النوّم. ثم لما فتح باب خزانة ليخرج لي كيس الرز الموعود، سبقتني عيناي غدرا إلى هناك، فتبيّنتا من بين ما تبيّنتا كراتيناً من علب التبغ مكدسا بعضها فوق بعض. تبا لخائنة الأعين! من أجل ذلك نقل لنا الرازي عن الحكيم جالينوس قوله:
“على الطبيب أن يغض طرفه عن النسوة ذوات الحسن والجمال، وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن. وإذا أراد علاجهن أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه، ويترك إجالة عينيه إلى سائر بدنها”.
ولأنني لم أفعل ذلك، استيقظت فيّ كل شياطين الأرض.
كنتُ مثل من ضل أياما في الصحراء بغير قِربة أو زاد. لسانه يتدلى من فمه جوربا عتيقا، ومعدته تتلظى كأنها تهضم جمرات متقدة، والشمس تستنبط كل الذي في أنسجته من ماء. ثم تظهر أمامه واحة، في الواحة بار أو حانة، لدى طاولتها جارية ممشوقة القد تنحدر من إدنبره، خلف الجارية رفوف تتلألأ بالمشروبات الروحية والمادية. أدنو من الجارية سادراً أجر إليها رسني، وأحدثها بحديث عيسى بن هشام في مقامته البغدادية: “ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج! ليقمع هذه الصارّة، ويفثأ هذه اللقم الحارّة”. ولما كان الكريم للكرام مُجلاّ، إذ بها تسكب لي جعة اسكوتلندية مذهّبة في كوب كبير كناطحة سحاب، عميق الغور كبئر جِهِنّام. ستقول لي بكل طلاوة ونداوة:
“!here you are, sir”.
سير! ما أعذب هذه الكلمة! أتخيلني أنثوني هوبكنز أو روجر بنروز. وبجانبي يطلب زبون آخر كأسا من الوسكي، فتسكب له الجارية ما يروي ظمأ روحه، وتلقي في الكأس ثلاث مكعبات من الجليد تتراقص وتتشاقى.
سيخطر ببالي أن أطلب منها عرَضاً سيجارة: ممكن سيجارة؟
وستقول لي بلطف بعد أن صار لها شارب غليظ ولهجة فلسطينية متقعرة: سيجارة؟ ولو يا حكيم! إلك الباكيت كلّه.
وسأتمنع قليلا، كما لو أنها أحرجتني بعرضها هذا، ثم سأوافق على مضض. فآداب المهنة قد تسمح لي بتلقي هدية، لكنها تمنعني من استغلال منصبي ودالّتي على المرضى. على أن شيئا من هذا لم يحدث. أغلقَ أبو العبد باب الخزانة، وتبخرت الواحة قبل أن يرتد إلي طرفي.
– تفضل حكيم! الرز كما وعدتك، وخيرك سابق.
“وسرت وحدي شريدا
محطم الخطوات”
ها ها ها! ظريفة! تهزئين ممارِسة تنمّرك على قط أليف كسير مثلي. كل ما في الأمر أني عدت مترنحا على دراجتي، راضيا بالغنيمة، منهكا من الضعف والهزال، وحذائي الضيق – كان- صار كونا فسيحا ينزلق من قدمي مرات ومرات. وفي الكون الحقيقي الذي تعرفينه، كنت أمضي الليالي ذوات العدد لا معتكفا في غار أتفكر في خلق السماوات والأرض، ولا محرقا زيت القنديل – نعم! فقد عدنا إليه- في مراجعة دروس الطب والجراحة، ولا شاحذا ذهني في تعلم لغة جديدة أو تفريع جديد في الشطرنج، كنت أمضيها في الحلم. رأيت أحلاما كثيرة في تلك السنوات، وكانت تتكرر دائما. سأسميها “أحلام فترة الحصار”، وسأقصها عليك في نص مستقل. وكنت في أحدها أدخل “بقالية الكناكري”. لا يزال عدنان فيها، ولا تزال عامرة بالبضائع، وفيها تحديدا من أنواع التبغ من كل زوج بهيج، تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في تراكيز القطران والنيكوتين والعلامة التجارية. بل معي مال أيضا! تخيلي! معي مال، وأستغرب لم حرمت نفسي من التدخين طيلة الوقت وهو متوفر، ويستغرب عدنان من انقطاعي عنه فترة طويلة: وجدت بائعا غيري؟. وكنت أرى في ذلك الحلم مؤشرا للانحطاط، لانحطاطين: انحطاطي الشخصي، والدرك الأسفل الذي هوينا إليه. لذا لا تعجبي إن أخبرتك أن أول فعل كنت أقوم به، أو يقوم بي، فور استيقاظي من أحلام كهذه هو البكاء. ومضت خمسة الأشهر التي ذكرتها أعلاه، إلى أن تمكن ياسر، بطريقة ما، من تدبر سيجارة حمرا، فدعاني إليها. هو لم يدعُني في حقيقة الأمر، فقد كنا نستوطن منزل أهله أكثر مما يفعل. قد أحدثك عن هذا في وقت لاحق. بعد أداء بعض الرقصات الاحتفالية والحركات التعبيرية، أشعل ياسر السيجارة كما لو كان يوقد الشعلة الأولمبية. وحينها ارتكبتُ غلطا فاحشا، وهو أحد الأخطاء الكلاسيكية العشرة، بأن سحبت النفَس الأول وأنا واقف. كيف أصف لك ما حدث؟ ضياع. تعطلت وظائف دماغية من قبيل الوعي بالذات والتوازن والتوجه للزمان والمكان والقذائف، وتطورت وظائف أخرى. صرت أسمع ضحكا وصهيل خيول، وأرى عناكب تزحف في رأسي وعلى الحيطان. ولما لم تعد مفاصلي قادرة على حملي، آثرت الحفاظ على ما تبقى من كرامتي والارتماء على الفرشة. سحبة تفعل بي هذا؟ وا ذلاه يا تغلب! ثم رأيتك تدخلين عليَّ من الجدار محمّلة بالكرز ومحمولة على أمواج البحر. دخنتُ سنين ولم يعبث التبغ بروحي من قبل مثل هذا العبث. لعلّك توقعت أن أقفز إليك طفلا نحو أمه، لكنني بقيت هامدا في مكاني مثل جثة منتشية. تسألينني: ما لك؟
أجيبك كأنني صفحة من ديوان العرب:
منع الزيارةَ والوصالَ سحائب … شُمّ الغوارب جأبةُ الأكتاف
وكانت سحب الحمرا جعلت مناخ الغرفة ضبابا مع احتمال لإشراقة الوعي، وكنت تضحكين زهوّاً بحضور ذاكرتي الشعرية، ومع كل هاء من هاءات قهقهتك كنت تتلاشين مثل بقايا حلم.
– ماذا وضعت في السيجارة يا رجل؟
– نيكوتين حقيقي.
كان حقيقيا كما لم يكن من قبل، وأعتقد أن أخي هو من التقط لنا صورة تخليدا للحظة بلوغ الحقيقة. وإذ أنظر فيها الآن كما لو كانت برديّة منسية، أرى كائنين فضائيين. أما أحدهما فيبدو مثل رجل كهف خرج من حرب عصابات طويلة الأمد، وأما صاحبه فيبدو مثل مريض تلقى جرعات زائدة من علاج كيماوي بعد تشخيص إصابته باللوكيميا.
إيه، أيام! لماذا أقص عليك كل هذه التفصيلات؟ أريد أن أحيطك علما بالجو كأنك تعيشينه معنا، أريد أن أشرح لك غائبي كأنك حاضرته. كل هذا الحديث من أجل سيجارة؟ هذا ولم أخبرك بقصص كثيرة بعد، اكتفيت مبدئيا. لم أرد أن أزين لك أعمالي، ولا أن أكون طبيبا تموله “فيليب موريس” من أجل أن يروج للتدخين، ولا أن أفسد عليك هناءتك الوضيعة، أردت أن أطلعك على الفاصل المعجمي بين القذف والقصف حيث يتربع القرف. يستعصي على صاحب المعجم إيراد مرادف له، فهو واضح بذاته. لا حاجة حين تلتقينه بأن يبدأك: “أُتعستِ أوقاتا! أنا السيد قرف، عملي أن أفسد عليك حياتك…” إذ ستعرفينه من فورك: من رائحته، من لكنته، من مفرداته، من غبائه، من أنانيته، من ثقته المفرطة بجهله، من تكلّفه، ومن تعلقه الشديد بك. في ذلك الفاصل سيكون للسيجارة مفعول الترياق، وستهمس لك بصوت المعلم باشو:
“في كوخي
كل ما عندي لأقدمه لك
هو أن البعوض صغير”
وستكونين ممتنة لبعوضها الصغير في عصر الميج والسوخوي والسكود والفيل وداود، وستقولين: هذا المشهد لا ينقصه إلا كوب شاي. وستسلكين في الطريق كأنه لا باب لها.