ذاكرة مكان

حياة الا ربع

اليمامة تضع صغارها وترحل بعيداً بحثاً عن الطعام وتعود به لتطفئ جوع صغارها وتعهد أنها سوف تمضي بقية عمرها على هذا المنوال لترى صغارها طيوراً يحلقون ويغردون في أعالي السماء في كل صباح من صباحات المخيم. ربما لم تكن صباحاتي طويلة واقتصرت على مدة زمنية وجيزة بالنسبة لي كأقل تقدير بل كانت كغمضة عين واحدة. اليمامة هاجرت وانا هاجرت ايضاً، لم أعِش الفترة الكافية في المخيم لأكتب عن أصغر أزقّته وأماكنه، لكني عشت تفاصيل كافية تجعلني اتذكر الشارع المودي للمدرسة” شارع المدارس” المليء برائحة المعروك والجلّاب وبسطات الفول والذرة، وطريق الذهاب والإياب الذي يمر من حارات المغاربة البسيطة وأصوات الطلاب الخارجين من المدرسة، ضحكاتهم، وجوههم التي لا تفارق مخيلتي كنت في وقتها فتاة في الخامسة عشر من عمرها جلّ ما تريده أن تذهب للمرحلة الثانوية والتخلص من المرحلة الاعدادية المقيتة التي تحدد علي أن أكون طفلة في نظر عائلتي والحي الذي أعيش به، أردت أن اخرج من بوتقة شارع المدارس وازدحامه بطلاب الصف الأول للتاسع والانتقال لمرحلة الفتيات اللاتي يذهبن لثانوية اليرموك من الشارع الرئيسي على الأقل سأصبح بنظر عائلتي ” فتاة الثانوية” وانتهي من الرقابة الشديدة لمدارس الاونروا التي لطالما انطردت منها بسبب تصرفاتي ومظهري “الذي لا يلائم فتاة مدرسة”

نتائج التاسع (2011)

كان لدي اكثر من خيار بسبب مجموعي العالي الذي يؤهلني لدخول ” ثانوية المتفوقين في كفر سوسة” و “ثانوية عائشة” و بالطبع الثانوية الموعودة “ثانوية اليرموك للبنات” لكن تقلصت خياراتي الثلاث لواحد بسبب تمدد الثورة إلى دمشق العاصمة وأصبح من الصعب أن أخرج خارج المخيم أو حتى أن أذهب لثانوية عائشة لأنها تطل على التضامن ، تلك المنطقة المليئة بالاشتباكات.

لا بأس،هنا أو هناك بعيداً أو قريباً لقد تحقق حلمي البسيط وارتديت البدلة الرمادية على الرغم من قضائي أربع سنوات في شارع المدارس يومياً ذهاباً وإياباً، إلا أن الشهرين اللذين قضيتهما في ثانوية اليرموك جعلاني أُدمن طريق اليرموك الرئيسي المليء بمحلات الألبسة والاكسسوارات والازدحام الجميل، والرجوع من شارع لوبية ورؤية العشاق المختبئين في ازقته خوفاً من رؤية الاقارب لهم.

رائحة الفلافل التي تفوح من محل “طيبة” حيث كنا نتضور جوعاً عند مرورنا بجانبه في وقت الانصراف الذي نتنظره بفارغ الصبر لكي نشتري منه ب 25 ل.س فلافل لنأكله على الطريق بينما نتفرج على الألبسة الحديثة ونراقب وجوه الناس المليئة بالتعابير المختلفة، كل هذه التفاصيل تأكل ذاكرتي وتحاصرني، كم أتمنى لو أمكنني إخراجها من رأسي والعيش بسلام دون التناقضات التي تعشش في ذاكرتي بعدما اكتسح الخراب المخيم واحترقت أبنيته وكُسّرت واجهات المحلات، معالمه باتت مجهولة؛ السماء تغيرت، وجوه الناس وتعابيرها تغيرت واصبحت محصورة بالخوف والقلق، جدرانه التي تكاد تنطق من شدة الخوف عندما دخلته للمرة الثانية إثر قصف الميغ الذي لجامع عبد القادر الحسيني.

لم أستطع ان أتعرف على ثانويتي بسبب الحريق الذي التهمها، عجزت عن تحديد المكان الذي كان يقف فيه ذلك الشاب المعجب بي الذي كان ينتظرني في وقت الانصراف، لم أكن واعية سوى لكمية الخراب التي أُحدثت بالمخيم نتيجة القصف المستمر الذي شوه ملامح المكان الذي لم يتسنَ لي حتى أن أعيش مراهقتي فيه مثل أي فتاة طبيعية، حتّى منزلي -ملجأي الأخير- الذي بناه أبي وأمي بيديهما غرفة غرفة كان قد تدمر و احترقت كل صور الطفولة وذكرياتي معه كل شيء قد ذهب ، البيت ،الشارع وصوت الاطفال وعجقة السير والمدرسة اشراقة الشمس ورائحة الخبز، حتى البدلة الرمادية قد ذهبت، كلّهم ذهبوا للمجهول.

من ذلك الحين وأنا أتذكر كل مسيرات حياتي التي تبِعَت خروجي من المخيم لأي منطقة أو بلد آخر، شعور اللا إنتماء لأي مكان أذهب إليه يرافقني، والوجوه الغريبة التي لم ألحق أن اعتادها حتى تتغير، ربما أخذ اللجوء جزءاً كبيراً من حياتي لدرجة الشعور بالاستغراب اذا دام استقراري في مكان معين لمدة طويلة ويبقى السؤال الدائم في داخل كل فلسطيني : أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟

هو ألا يحدث هذا كله . وقد حدث ..

بيسان أبو ناصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 + 10 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى