ألفا ليرة لبناني
ألفا ليرة لبناني
يوم الاثنين ، بداية الأسبوع في لبنان ، بداية أيام العمل ، ويوم سماعي لصوت في أذني : ” روحي عشغلك اليوم بكير ولا تتأخري.”
كما جرت العادة ، قليلا ما أحببت العمل الذي كنت أقوم به لذلك كنت دائمة التأخر والغيابات .. إلا أن الوحي الذي نزل علي اليوم ساقني إلى الشارع باكرا مبتسمة متفائلة سعيدة بالجو الرطب جدا الملتهب جدا .
لم أنتظر على الموقف نصف ساعة ليتحرك “الفان ” شمالا.. بل تيسر لي سائق سيارة تكسي يقل ثلاث أشخاص وييحث عن الرابع فوجدني أمامه : ” اطلعي عمي اطلعي ماعاش محرزة أخذ منك أكتر من ألفين ” ، بالطبع وافقت بابتسامة عريضة وأخذت المقعد الخلفي اليميني ..
بداية لم تكن الشمس مزعجة ، فبتّ أستكشف الوجوه التي ترافقني : أمام السائق تجلس امرأة، النظر إلى الشمس أرحم من النظر إلى وجهها من شدة عبوسها ” غالبا تكره حياتها وزوجها وأولادها ” .. وعلى اليسار من مقعدي سيدة قروية تمسح جبينها بمنديل مهترئ و تحمل أعواد ميرمية وقرفة ” من المؤكد أنها ستذهب بهم إلى ولدها في المدينة ” .. وفي المنتصف بالقرب مني امرأة أخرى في الخمسين من العمر تسترق النظر إلي من الأسفل للأعلى وحينما تلاقت نظراتنا ، ابتسمت، فبان في فمها سن فضي ” من ملامحها أظن أنها فلسطينية قادمة من سورية “.. لم يكن ظني بها خاطئا حيث تأكدت منه بعد وقت قصير ..
تجربة ركوب الفانات والسيارات تعطيك صفة المحقق فيصبح من السهل عليك أن تميز وجه القروي و المدنيّ عن وجه ابن صيدا و ابن طرابلس مرورا بأهل بيروت و أيضا ستحفظ وجوه السوريين ومدنهم ووجوه الفلسطينيين قبل أن يتكلموا .. إلا أن وجه هذا السائق اليوم لم أميزه ..
حينما وصلنا إلى منتصف الطريق سريعا جدا دونما عرقلة .. دخل السائق في النفق السفلي الأبعد إلى بيروت و الأكثر ازردحاما وكأن صوت المذياع واندماجه بالأغنية سحبه لهذا الطريق .. ” عمووو ليش فتت من هون! هلق منعلق بالعجقة ومنتأخر ” فأجابنا بأنه خمّن أن الازدحام اليوم أخف ،كيف أخف ونحن في يوم الاثنين ؟ الله أعلم وهو أعلم ..
فجرى الصدام بيننا وبين السائق و تحولت النساء معي إلى قبيلة بربر، لكن في النهاية لن يستطيع الرجوع لأن الطريق اتجاه واحد و لن نستطيع النزول هنا .. وهنا تماما بدأ صراعي مع الشمس ومع الوقت.
ابتلعت ريقي مرة بعد مرة ..و السيارة مازالت في مكانها منذ ربع ساعة والشمس على وجهي تماما منذ أن خرجت .. جسدي بات كتلة من اللهب كيفما حركته التصق بثيابي وشعري يلتصق بوجهي.
الرطوبة عالية ورائحة البنزين وصوت المحرك عال .. وفمي جاف جدا والوجوه عابسة مكربة . إلا وجه من تلتصق بي ما زال يسترق النظر لي .فالتقت نظراتنا ثانية وابتسمت وسألتني : ” مشوبة حبيبتي ؟ ” .. بصدمة وحيرة مني : ” لا عادي شوي مو كتير ” ” من وين انتي ..؟ ” ..” فلسطينية من اليرموك ” ..” ولله وآني كمان بس من الحسينية ” ,, ” ممم طيب وين نازلة ” ..” عمفرق السفارة ” .. ” ممم ..مخطوبة.. أنا ابني شب وعمبدورلو ععروس ؟” …
مخطوبة ؟ كيف تتجرأ هذه المرأة عن سؤالي عن علاقاتي الشخصية وأنا سأبكي من الحرارة ومن التأخير وفي حال أردت الإجابة حلقي الجاف لن يساعدني وسنّها الفضي لم يساعدني أيضاً .. على أية حال ابتسمت لها و رجعت لانشغالي بالاختباء من الشمس، من أصوات الزمامير، من قلة الهواء …
بعد ما يقارب الساعة تشبّع خلالها السائق شتائم من السيدة القروية و قطعّته نظرات الامرأة العابسة له بشيء من القرف وكأنه زوجها تحرّكت السيارة وأجابنا جميعا : ” الله لا يوفقكن ..كل النسوان هيك ..عشان هيك ما تجوزت “..في هذه اللحظة فقط نسيت كل شي وضحكت فصادفت عيني عين التي بجانبي لأراها مازالت تبتسم لي وتنتظر جوابا ..
وصلت إلى وجهتي وأردت النزول فطلب السائق الأجرة أربعة آلاف ليرة أي أن المبلغ تضاعف : ” شوووووووو طلعت معك عأساس ألفين مافي غيرها عجبك عجبك ماعجبك لاتاخد “.. وأنا بكامل ثقتي أضع بدي في حقيبتي ..ثانية ثانيتان ثلاثة.. لم أجد محفظة النقود .. يا إلهي أين محفظة النقود .. أين هي؟ ..” عمو مشان الله ما تواخزني ما عم بلاقي المصاري نسيت المصاري بلبيت … ” نشالله مفكرتيني ما بعرف للنسوان طلعي المصاري … ” هنا قبل أن تغرغر الدمعة في عيني نظرت للتي بجانبي وقلت لها ” مو أنا خطيبة ابنك .. عطيني ألفين وعطيني رقمك والله برجعلك إياهن … ” فذهبت ابتسامتها سريعا ولم يعد السني الفضي يلمع ونطقت : ” أنا ما أعرفك ولا تعرفيني.. ” ..
أذكر يومها أن أكلمت طريقي مع السائق لأقرب بيت صديق هناك كي يدفع لي الأجرة مضاعفة ثلاث مرات وأنا مليئة بالصدمات .. أكبرها أني لم أدفع ألفي ليرة لبناني للسائق.
هديل السهلي