صافرة في سماء سبينة

لم يكن خالد ليريد أن يزعجنا بصوت صفيره لحماماته التي لطالما استيقظت حارتنا على أصوات هديلها….. لم يكن ذاك الفتى كباقي الذين في سنه.. أدركناه كبيرا رجلا يساعد والده الذي يعمل سائق باص وشاحنات كبيرة…. لم يتجاوز السادسة عشر من عمره حينما أعجبت فيه للمرة الأولى التي رأيته يقود سرفيس أباه (أبو طلال)..كما وكأنه يقود سيارة يلعب بها.. اتذكر جيدا تعليقات النساء في الحارة على هذا الموقف فقالت احداهم (ماشاءالله زلمة والله)، وأضافت أخرى (طالع لأبو)، واحداهن أصابتها الغيرة فاكتفت بابتسامة خفية وتمتمت (ابني يعرف يسوق كمان)… مرت السنة الأولى من الحرب اللعينة علينا مريرة كمرارة العلقم…. فافتقادنا لأقل مقومات الحياة وسعينا للحصول على الخبز كان يسرق من عمرنا.. ما يسمى بأجمل الأيام.. وكان خالد وأصدقاؤه في الحارة يمارسون حياتهم بشكل اعتيادي… يتحدثون عن المناطق التي قصفت.. وعن بطولات الجيش الحر وأن أحدهم سيقاتل عما قريب في صفوف الثوار… كنت شخصيا أحب تلك المجموعة التي تقف دائما على راس الحارة.. احب اعمارهم… أرى فيهم نفسي القديمة… لم أكن أتذمر من شكوى أصدقائي الذين هم من جيلي وسؤالهم لي دائما (شو مشيك مع الولاد ) لم أراهم يوما أولاد.. رأيتهم رجال وأكثر…. خالد لم يكن أكبرهم… لكنهم كانوا يعدونه كذلك….. لم تفارقني تحيته لي عندما يرد علي السلام باحترام…. أمازحه كثيرا… كنت أقول في نفسي أن خالد ذات يوم سيصبح رجل تشهد له كل الحارة…. في يوم غائم استيقظنا كالعادة للهدير…ولكنه هذه المرة لم يكن هدير الحمام… كان هدير الطائرات الحربية بسمفونيتها الحقيرة التي لم نحبها يوما، لأننا اعتدنا سمفونيات فيروز ومزاح النساء وحديثهن الصباحي….. خرجت (بالشورت والكنزة) أتأمل وادعو الله أن لا أفجع بعزيز… كانت الحركة طبيعية في الحارة…بعض الخضار التي دخلت المنطقة.. قليل من الخبز الذي كنا نشعر أنه من المحرمات… خالد يجلس على (راس الحارة) وبجانبه برميل ماء فارغ.. قلت له ممازحا (هاظ الطيارة زتتو؟..) أجاب بابتسامة :(بدي احطو هون واسوي حاجز ما حدا احسن من حدا) مضت ساعات حتى كان أذان الظهر… اخذ بنا الملل انا واختي واخي محمود إلى سطح بيتنا… وجهز أخي الأرجيلة… وأمي لم تكف عن الصراخ علينا خوفا من القصف…. (انزلم هلا تجي الطيارة..). خالد على سطحهم المقابل لسطحنا (يكش الحمام) صافرة قوية….ليست لخالد هذه المرة… صافرة قذرة… اعتدناها وألفناها وباتت جزء من يومنا الاعتيادي… سقطت قذيفة الهاون كأنها علينا…. لم اسمع وقتها سوى صوت أمي نادت باسمي دون إخوتي…. كانت تعرف ان ياسر هو الشقي في العائلة وغالبا ماتقول لي (ياسر لاتظلك تركظ ورا القذايف) خرجت مسرعا إلى الحارة الثانية (حارة خالد).. غبار كثيف اصوات استغاثات مرعبة.. لازالت اذكر جيدا رائحة البارود… رائحة الخوف والرعب… وجوه قليلة من المسعفين… أخي محمود…علاء صديقي…. صالح صديقي ايضا… تعثرت بشيء ما.. لم ادرك انه طفلا لولا أن نبهني صالح….حملته بيدي كان خفيفا… كأنه ملاك من السماء.. (ناصر) الأخ الاكبر لخالد يبكي من هول الفاجعة ويصرخ (خالد فوق عالسطح) لم ار ناصر جيدا كان وجهه مغبرا كثيرا… لكني عرفت انه هو من صرخته (خالد عالسطح)…كانت صرخة الأخ الحقيقة… الصرخة التي لو ان دبوسا شكنا لقلنا أخ…. طفل ثالث لم أخف عليه كثيرا لأنه كان يصرخ من شدة الوجع وعرفت انه سليم والحمدلله….. خرجنا من الحارة مسرعين… مذهولين… كبرنا كثيرا يا الله… لم نعتد أن نحمل الأرواح على أكفنا…. ولا نجد من يسعفها.. دراجة نارية كان صاحبها اسمه يوسف قال لي اطلع بسرعة…. لم التفت للخلف…أسرعنا باتجاه الشارع العام…. اخي الكبير احمد صرخ (مين) عندما رآني مدميا واحمل صغيرا بين يدي… لم أجبه سوى (الحارة الثانية الحارة الثانية).. وصلنا الشارع العام…. وجدنا سيارة (هوندا) توقف صاحبها قائلا (حطوهم من ورا) كانوا ثلاثة أطفال….ثلاثة أقمار….كان همهم الوحيد أن يكشو الحمام… وكانوا يمزحون عندما قالوا انهم سيضعون حاجز…. خالد كان مضرج بالدماء… تلك القذيفة اللعينة كانت سقطت جانبه تماما… لم تبالي بالحمام الذي لازال طائرا في سماء المخيم…. لم تصدق أنه كان يمازحني بموضوع الحاجز… لم يؤثر فيها دموع ابيه وهو فوق رأسه ويناديه (خالد يبويا يا خالد)..كان ابوه رجل طيب لا يمكن لأحد إلا أن يحترمه… كانت الشظايا قد ملأت جسده… حتى أني اخرجت احداها من أذنه… نسيت المصابين الطفلين… نسيت الوجوه التي ركبت معنا بالسيارة… لم ارى إلا خالد… شلحت الكنزة التي كنت قد اشتريتها منذ يومين… ابعدت اباه قليلا.. وضعتها تحت رأسه… أشهد أني لم أشم يوما رائحة عطر كتلك التي خرجت من دم خالد… كانت الاصابة في الرأس هي الخطيرة… وصلنا المشفى الميداني ولم أخبر أحد اني شعرت بموته …لم اقل لهم ان الفجوة في رأسه كانت مميتة….أخفيت عنهم كل هذا….. أخفيت عنهم رائحة المسك… ولم أخبر أحدا أن خالدا ابتسم….. عدنا إلى الحارة بقمرين…. كان الأول الذي حملته -والذي انتظر ابويه اثنان وعشرون عاما حتى اتاهم- قد مات ايضا…. هربت من كل العيون…. من عيون أمه التي صاحت في وجهي اين ابني…. من اصوات الامهات هربت…. من عجزي هربت…. من دمائهم العالقة في قميصي الداخلي هربت….. ادخلنا خالد الغرفة الأولى في البيت… اراد احدهم ان يغسله… رفضت انا وصرخت بوجهه (اتركوه زي ماهو) فوالله لن اشم عطرا أزكى من ذاك العطر… احضرت اصدقاؤه جميعا…. جلسوا فوقه يبكون….. وابكي معهم كطفل… لم أستحي من وجوه الكبار… اخرجناه لنصلي عليه…. صلينا عليه في الحارة نفسها خوفا من التجمع… صليت بدون وضوء… صليت على تراب الحارة…..صليت واصدقاؤه كانوا جميعهم كبار….. بشرتنا قطرات المطر بأن في حارتنا شهيد…. قطرات المطر التي لم تأت في موعدها.. كان الجو صيفي حار… بركات السماء
باركت خالد وشيعته …. وقفت عاجزاً ،مذهولاً تأملت السماء كثيراً كانت حمامات خالد لاتزال تطير في السماء، لم تفزع لصوت صفير القذائف ، ولن تهابه مرةً أخرى……..