أبي -يزن عريشة
كُتب النص أدناه عام 2012 بعد وفاة والدي بأيام ولم يكتمل حينها؛ والآن اكتمل اخيراً بعد سنتين وأكثر على تركه لي
(خايف عليك)
أكثر جملة سمعتها من أبي خلال السنة الأخيرة في حياته، والجملة الوحيدة التي يبدأ وينهي بها أي نقاش يدور حول ما أفعل أو سأنوي فعله، وايضاً هي الجملة الوحيدة التي ودعني بها قبيل رحلاتي الثلاث إلى لبنان قبل موته بأسابيع
(خايف عليك)
اسمعها كلما تأخرت عن المنزل أو فعلت سيء ما وكلما عبرت عن موقف ((شجاع)) وتترافق بنظرة ملؤها الشفقة اكثر من الخوف لسبب عرفته لاحقا.
حين استبدلت سهراتي الطويلة معه وحديثنا عن الحب والسياسة بنقر ازرار الكترونية وادمان الانترنت، فاجأني بقوله:
(اعملي فيس بووك)عبثاً حاولت تعليمه وكان ينهي المحاولة دائماً باقتراح شهير ( ركب دولة القهوة وتعال ندردش) يرافقنا بذلك دائماً أم كلثوم وعلب سجائر عديدة تفرغ قبل أن ننهي الدردشة.
أجلس على كرسي معدني بصمت وهدوء مبالغ بهما، لا أريد أن ابكي كما فعل كل الحاضرون، أخي والاقارب والطبيب والممرض وعاملة التنظيف في المشفى الذي كان أبي فيه (زبون مداوم)
لم آتي بأي حركة فيما تنقل الجثة من العناية الفائقة إلى ثلاجة الموتى، .
كانت قد مرت عليّ أطول تسعين دقيقة في التاريخ، كنت عائد إلى المنزل فأبلغني احد الجيران:
(أُسعف والدك إلى المشفى قبل قليل)
لم أعلق على النبأ كان عادياً فمنذ أعوام وأنا اسعفه إلى ذات المشفى شهريا
كان عائداً من عمله، وضع حقيبته في مكانها المخصص واتصل بأخي:
(إنني أموت) قال له
فعلها بعد ساعتين فقط
ذهب بهدوء وسلام ولم يعان مثلما كان يفعل كلما قسا عليه قلبه المعطوب بالحب والمرض
كم هو شيء جميل وهادئ بالنسبة له، وكم كان ولا يزال قاسيا” علي
لاحقاً علمت أنه امضى الايام الأخيرة يودع عائلته؛ زار اخواتي جميعاً مودعاً إياهم وصاياه . قدم جملة طويلة من النصائح لأخي، اعتذر لأمي عما فعل وعن ما لم يستطع أن يفعل.
كيف ودعني أنا ؟!
اكتفى بترك نصف علبة سجائر فاخرة صباح يوم السبت ليتركني هو ليلتها، ودون أن أراه منذ صباح الجمعة
《لماذا تخليت عني؟ لماذا؟》
نغرق بعدها في طقوس كثيرة ..الغسل وترتيبات الجنازة والدفن والعزاء، يؤمنون انها تخفف عن الميت وتثبته، وأؤمن انها تخفف عنا نحن وتثبتنا نحن
يدعون: اللهم بدله أهلا” خيرا” من أهله، إنه في مكان طيب برفقة رفيق طيب ولا يحتاجنا لا نحن ولا طقوسنا
أنا من احتاج له
(لماذا تخليت عني؟ لماذا؟)
يزداد البكاء المكتوم، الذي لا يظهر لكنه ينفجر كثيراً على فترات، انفجر للمرة الأولى حين عانقني معتصم قبيل الدفن
يأتي الناس للعزاء ويرددون بتلقائية اتوماتيكية مفرطة كلمات معتادة: 《عظم الله أجركم》《الله يرحمو》 《البقاء لله》ترد بتلقائية أكثر افراطاً وحين ترتبك تكتفي بالصمت وتسأل ما قيمة ما يحدث الآن بعد وفاته ؟ كتابة النعي، اجراءات الجنازة والدفن والعزاء .. لماذا ننهمك بأشياء دنيوية في موقف لا يمت للدنيا ؟
قبل سنتين كتب النص أعلاه واحتفظت به إلى ان استرجعته الآن حين قال أحدهم:
(ان الحزن يبقى ولكن تخف وطأته) ولكن ماذا عن الاشياء التي تذكرك به فتخرج منك وبعد وفاته بسنتين من الدموع التي لم تخرج وقتها ؟
القضية أكبر من أشياء فعلناها سوية، واكبر من أحاديث ليلية طويلة، وأكبر من اهتمامات مشتركة حيناً ومتناقضة حيناً انه بصمة وُضعت في كل حياتي بوجوده وغيابه
الآن فقط، عرفت لماذا كان ينظر إلي بشفقة، لقد كان يدرك ما سيحدث وكان يدرك كم سأحارب الدنيا كلها وحيدا
《لماذا تخليت عني وما زلت طفلا” ؟》
من سأذهب له الآن واحدثه عن واقعي وانا اعلم انه لن يفعل شيئاً سوى أن يستمع ويدعوني الى سيجارة من علبته؟
من سأذهب له الآن لأخبره عن نواياي كاملة ليبدأ القول ب《خايف عليك وينهيه ب《خايف عليك》وبين العبارة واختها الاف العبارات المشجعة والمؤيدة والداعمة لما قررته
من سيقول 《 انسى كل شي وساوي يلي براسك》كم احتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، من سيقول اليوم
(خايف عليك)
يقولون أن الحياة تستمر، نعم انها تستمر لاننا نريد نفعل شيئاً ما بحياتنا لكنها بدونه بدون معنى
تكتشف اليوم أنك مهما كبرت فإن شيئاً بداخلك ينادي: مع من سأسهر اليوم وإلى من سأبوح بأوهامي ومجازفاتي ؟
《لماذا تخليت عني؟ لماذا؟》
(يزن الان معتقل على موعد مع الحرية منذ نهاية عام 2014)