بهية

غرباء
في غرفة العناية المشددة كان السرير المجاور لأمي لرجل سوداني يقرأ له ابنه القرآن على نية الشفاء عندما أخبرتني الممرضة بنبأ رحيلها، سألني عندما بدأت بالبكاء:
_ أليس معك أحد؟
_ لا
_ سأنادي لأختي لتكون معك فقط دقيقة و تكون هنا
اتصل بها، ضمتني بقوة إليها فور وصولها ثم خرجنا من وحدة العناية المشددة، اجتمعنا أنا و عائلتها السودانية و عائلة فلسطينية كبيرة تنتظر والدتها، وعلى باب هذه الغرفة الصامتة بدأ مجلس العزاء، قالت الفتاة إن الموت فراقٌ طويل و من حقنا أن نحزن فنحن لن نلتقي من فقدناهم إلّا بعد زمنٍ طويل، كنت أتأمل كلامها في قلبي وددت أن أقول لها أنّ فراق الذين لا يؤمنون أطول، بل أنّ كلمة طويل ليست مناسبة هنا، الحزن يملأ المكان، ثمّة شيء لحظة الموت يكفي لتوحيد القلوب على أن الحزن واجب ، فلماذا يفترق البشر رغم كلّ هذا الموت الذي يعيشوه!
الطفل الفلسطيني ابن السيدة الأخرى التي في العناية المشددة -أصغر أطفال العائلة و ربما وحيدها على ثلة من الفتيات- التفت إلي بوجه مخطوف اللون: يجب ان تدعوا لها كثيراً ، هي الآن بأمسّ الحاجة إلى الدعاء
كنت كمن فقد أطرافاً خفيّة لا تُرى لا أقوى على الحراك أو الفعل
لقد كانت لهفة هؤلاء الغرباء و غرباء آخرون قاموا بالجنازة و في المدفن -حيث اقتربت سيدات إماراتيات للأخذ بالخاطر من دون معرفة- تجعلنا محظوظين بمراحل نسبةً لحالات الموت السوريالي التي يتعرض لها السوريين في هذا العالم.
طمأنينة
أوّل تعزية تلقيتها كانت من الله
رحلت أمي مساءً لاستيقظ صباح اليوم التالي حوالي الساعة التاسعة على جرس الباب
كان موظف الشحن، جاء يسلمني دواءها ويطلب مني التوقيع على وصل الاستلام.
لوهلة خيل إلي أنني أوقع على بريد إلهي بأن الله استلم أمي وقد كتب في أسفل الرسالة:
لا تقلقي ولا تبحثي عنها، هي الآن في ضيافتي
هي اكتملت وحان قطافها
نعي
الله يرحمك يا أمي، سامحيني، فشلت بكل شي حاولت إعملو لانقاذك
حاولت لآخر نفس، بس من الواضح إنو كل شي مقدر، أدويتك اللي حاولت جيبن بأسرع مايمكن، قامو اليوم وصلو، رح نوزعهن على روحك للي بيحتاجن
دفناكي يا أمي بالشارقة، قبرك رح ينور الإمارات كلا بالنسبة النا، رح تكوني حدنا، صحي المقبرة مو حلوة متل بسوريا، بس شو بدنا نعمل يا امي
يا رب دير بالك عإمي، و خود من زنوبها إزا التقت و عطينا، نحنا منحملن
ما إلك سئلة يا أمي و ما كلفتينا شي، اللي غسلوك معنا قالوا إنك هنية و ما بتعزبي، كنت متل الملاك النايم يا إمي و ارتسمت ابتسامة هنية عوجك الحلو
صحي كان هم الناس من كل شي بس إنهن يعرفوا إزا كنت رح تندفني عالطريقة الإسلامية و لا المسيحية، أنا بعرف، لو أنت كنت موجودة كنتي بس ابتسمتي…
الشي يلي بدو شرح طويل بتكفيك الابتسامة للاجابة عليه، ابتسامتك يا أمي كانت بتوقف أكبر حرب
و كتير إشيا يا إمي ببقا بقلك ياها بيني و بينك، إنتي كنت الجنة إلنا يا إمي، ورح نلاقي الفرح لحتى ما تقلقي علينا، الله موجود يا إمي بس اللي بيدافعوا عنه ما بيعرفوا عنه شي، مساكين، ما بتجوز عليهن إلا الشفقة
لما كان السرطان عم ينتشر براسك، صرتي تهذي بكلام كتير، كل شي مخبا بعمق اللاوعي عندك حكيتيه
وقت كنت تتوجعي كتير، كنتي تحكي إسم إمك و إسم بابا كمان، كنت تقولي وينك يا حبيبتي يا إمي، حسيتك بعدك بتفتقدي لإمك كتير
هلا كل شي بيّن يا إمي، إمك لساتها فيك وأنت رح تضلي فينا، بهذيانك كمان حكيتي عن المهجرين، و حكيتي أشعار بالسرياني، أنا ما قدرت إفهما يا إمي، العمر قصير وما قدرت اتعلم منك هاللغة،
طلبتي أنك تندفني بحمص
حبيتيها لهالمدينة كتير مع إنك كنت غريبة عنها، كنت منفتحة عكل شي جديد وبتحملي بقلبك فضول طفل صغير
الفضول اللي ما عاد حدا يحملو تجاه التاني يا إمي، وحل مكانو اليقين بالمعرفة واليقين بالظن السيء
ما رح نحقد على حدا لإجلك ورح نسامح اللي آذونا، بس ما رح نسكت عن الحق يا أمي، متل ما أنت بتحبي بس بطريقتنا
نعوت إليكم وفاة إمي بهية الحبيبة
وأبلغكم عنها كلّ المحبة والسلام
عتاب
مبارح وبشكل منفصل أنا وأختي حسينا أنو صار لازم وقت نزور أمي، من دون تنسيق، أنا كنت عم فكر زورا لأنو ما بعرف حسيتها أخدة على خاطرها لأن ما زرناها بها الشهرين ونص بعد رحيلها إلا مرتين، نحنا ما عم نتخيل أنو هي بمكان محدد، بالنسبة إلنا هي بكل شي وكل شي عم يزكرنا فيها، تركت بكلشي أثر فينا متل أيّا إم.
بزكر بتشرين تاني وبعد ما خلصت أول جلسة علاج كيمو إجت عالامارات تزورنا، لأول مرة بعد فراق سنتين و أول لقاء بعد ما عرفنا بمرضها، نحنا تلبكنا كتير من فرحتنا، رحنا عا المطار حاملين معنا ورد لنستقبلها ولما وصلنا كانوا بالمطار حاجزينها لحتى نحنا نسلمهم الفيزا الأصلية، ردينا رجعنا عالبيت لنجيب الفيزا اللي كنا نسيانينها ورجعنا لقيناها ميتة تعب حاطة الكمامة وناطرة
لما طلعت قالت بخاطر مكسور: “كان في إم تانية بنتا فورا طالعلتها لأنها محضرة الفيزا وجاية، إلا بناتي أنا مو محضرين شي” وحاولت تخبي دمعتا بس ما قدرت
هاد الصراع الداخلي بقلب أمهاتنا بيضلو خايفين يكون الله عم يعاقبن بولادن على شي عقوق عملوه مع أهاليهن، مع أنو أبي و إمي تنينهن من أكتر الناس بر بأهلن بس كانوا يضلوا يحسوا حالن مقصرين.
أمي بعد ماتوفى أبوها كانت كل فترة و فترة تقلنا إنو زارها بالمنام و حستو زعلان و فوراً كانت توزع خبز، تشتري من البقال بالحارة و تطلب منو يوزعهن للعيل اللي بيعرفها انو ممكن تكون بحاجة، و كانت دايماً تقلي
“الخبز كتير منيح و إلو قيمة كبيرة و تقلي لاتستهيني بقيمتو ممكن يقيت عيلة كزا يوم عبين ما الله يفرجها عليهن”
الحقيقة إنو لازم اللولاد يتفوقو على اهلن بالاشيا المنيحة، بس ماعم اعرف لحد الآن كيف و الله صعبة كتير
زرنا القبر و خلينا شوفير التكسي الباكستاني ينطرنا، إجا و ساعدنا بسقاية القبر بلهيب الشمس الحارقة وواسانا و قلنا “حرمة كلو يروح عالجنة …حرمة كلو مسكين لأنو”
المهم أنا مبسوطة يا أمي إنك نغزتينا أنا و إختي و حتى إختي اللي بسوريا و روحك زارتنا حتى لو عزعل، وانشالله مابتزعلي منا ابداً و بتضلي رضيانة عنا.
وجهان لامرأة واحدة
آخر مكدوسة من إيديك…طيبة كتير… وبتغصص كتير
إنت والشام… غفيتو بسلام
الأمل بعيون الصنايعية…وبياعين الخضرة… والعربيات
الولاد اللي بيبيعو تذكارات…وبياعين المي… والمازوت
والفلافل.. وميكانسيان وتشحيم السيارات
والنشاط اللي لازم لكل انسان
بعرف كون متلن… ومتلك
بس عم اخجل كون…عغيابن… وغيابك
وداعي الأخير
اليوم زرت قبر أمي مرة ثانية
أحمد الله على هذا الترف عندما أتذكر أنّ الكثيرين في سوريا لا يملكون نفس الشيء
أحد عمال السقاية في المقبرة و من دون طلب، قال لي بعد أن سأل من يكون لي هذا المسجى في القبر ” سأسقي القبر كل يوم ….لاتقلقي”
في هذا العالم المشغول بسباقه المحموم لما يظنّه الأفضل لنفسه، لم أحصل على مواساة أصدق من مواساة هؤلاء العمال الآسيويين، هؤلاء الذين لايعرفون شيئا عن حمّى العالم المتحضر، عامل التكسي الذي أوصلني يوماً الى المقبرة و انتظرني وقال ” حرمة كلو يروح عالجنة”
العمال الذين حين رأوني أبكي يوماً ما في الشوارع سارعوا بزجاجة ماء، بينما سارع الآخرون إلى السؤال والفضول
سأحرص على وداع هؤلاء عندما أرحل عن هذا العالم.
دبي
الكتل البيتونية تطبق على قلبي…
كطفلةٍ صغيرة تحت الانقاض…
تحجب السماء عن رئتي…
الكتل البيتونية التي تشمخ عالية في قزحيتي…
تطبق على روح أمي التي تقبع تحت رمال الطريق الدولي…
قالت أنها تحجب عنها السماء.. أو تحول.. لا فرق…
لطالما قرأت مراسلات بلدية دبي بشغف…
وحلمت باليوم الذي سوف أستنشق فيه كل التفاؤل الذي يتلبسها…
و ها أنذا.. في تفاؤل مسبق الدفع أسبح…
لطالما أحببتك بشغف.. يا مدينة من خيال…
و ها أنذا.. أتحبينني!
كرسي أمي النقال.. يتجول في بيت هندي.. ويختنق برائحة الفلفل الحار.. والحناء…
جسدها الذي مزقته الحرب ألقى بتعبه هنا…
بلاد مزاجها هوائي.. لا تعترف بالعشاق
بلاد مزاجها يهودي حزين
اليوم الذي يمر فيها بدون أن أستمع فيه للموسيقا التأبينية لعمال المناجم في كونغو الديمقراطية أوصي به ابنتي..
أن عوضي ما فاتني من صلاة…
فتعتكف تحت الجسر على الطريق الدولي.. تحصي العمال الذين قضوا في بنائه
الطريق الدولي… حيث ترتجف أمي كلما مرت قافلة هناك