ذاكرة حدث

أول يوم اعتقال

يوم أول اعتقال

الشمس تطرق باب المغيب من ذاك المساء الذي وافق 25/5/1985، صادف هذا اليوم الثاني للعطلة الصيفية وانتهاء عامي الدراسي في الثاني ثانوي. شوارع المخيم تكاد تكون فارغة، إلا من شخص كان يحمل بيديه بعض الحاجيات وكيس من شراب السوس. يرفع آذان المغرب إيذاناً بموعد الإفطار في اليوم الخامس من رمضان، واليوم السابع من بدأ معارك المخيمات في “بيروت” وحصارها من قبل “حركة أمل”.

في ذاك اليوم قادتني ساقاي قبيل الغروب بحوالي ساعة وربما أكثر قليلاً إلى مكتب أحد الفصائل اليسارية بصحبة صديقي “ثائر” لرؤية صديقنا “عمار”- الذي استشهد لاحقاً- والذي كان يقضي جل وقته خارج إطار الوقت الدراسي هناك، وفي ذات الوقت كانت تربطني علاقة جيدة مع بعض كوادر ذاك التنظيم، نتيجة لبعض الميول اليسارية لدي، والتي كنت أرى فيها أنها تعبر عن انتمائي الطبقي. المهم في الأمر أنه مع دخولنا للمكتب كان “الرفاق”- كما يطلقون على أنفسهم- مجتمعين وبعضهم ممن أعرفهم وهناك البعض من الأشخاص الذين لم أرهم من قبل، وقتها كانوا يتقاسمون مهام الخروج إلى الشوارع من أجل كتابة شعارات على الجدران تندد بالاعتداءات التي تستهدف المخيمات- ففي حينها لم تعتبر الجدران دفاتراً للمجانين بسبب تسابق التنظيمات لجعلها منبراً لشعاراتهم الفصائلية-. وكوننا حضرنا القسمة في ذاك المساء فقد شعرت بواجب المشاركة في التنديد بمعركة تستهدف الكل الفلسطيني، وكان قدرنا أنا و”ثائر” أن نكون بصحبة أحدهم ويدعى “حسيناً”. كانت هيئته تقول أنه يكبرنا بأكثر من عشرة أعوام، ورغم أنه لقاؤنا الأول، لم أرتح لهيئته وهو يظهر علبة الـ”مالبورو” من جيب قميصه، ممسكاً برؤوس أصابعه سيجارة منها، نافثاً دخانها عالياً بشيء من الفوقية الجوفاء، همست في أذن صديقي “عمار” ساخراً بالقول: «ما بال هذا الملتحي المخنث يتصرف كعاهرة؟ِ..».

فرد علي هامساً وأخبرني أن “حسيناً” كان أحد أركان صمود معركة “بيروت” الأسطورية في اجتياح 1982، وأنه من أجدع الشباب. حسبت أن حدسي خانني وعلى غير عادته وأنا الذي أؤمن به عادة وأصدقه.

مضى بعض الوقت بالنصائح والتوجيهات في اختيار الأماكن المراد تغطيتها بالشعارات. حملنا متاعنا على أن تكون الخطة على النحو التالي: واحد يقوم بمهمة المراقبة خوفاً من قدوم الدوريات التي نشطت في الأيام الأخيرة وملأت شوارع المخيم، والثاني يقوم بالكتابة بخاً على الجدران، أما الثالث فمهمته أن يملي عليه الشعارات المطبوعة سلفاً على الآلة الكاتبة، على أن نتشارك نحن الثلاثة حمل عبوات الدهان )البخاخات(. وكانت مهمتنا تقتضي تغطية القاطع الممتد من عند حلويات الأطرش- الذي كان يبعد حوالي مائتي متر عن مدخل شارع “لوبية” شمالاً- إلى مدخل المخيم على شارع اليرموك الرئيسي.

دقت ساعة الصفر، بدأت المجموعات السبع بالانتشار على أن تعود بعد ساعة أو ساعة ونصف على أبعد تقدير، ونحن بدورنا مضينا إلى هدفنا على أن تكون نقطة التجمع الثانية في العودة هي ذات نقطة الانطلاق. ما أن بدأنا بكتابة أول شعار والثاني حتى طلب “ثائر” الانسحاب وعبر عن عدم رغبته في الاستمرار، وسلمنا ما كان بحوزته من علب البخ. مضى تاركاً مكان المراقبة فارغاً، فمضيت أنا و”حسين” نكمل المشوار وأنا أشعر بالخذلان من تصرف “ثائر” الذي كانت تربطني به علاقة عميقة موزعة بين المدرسة ومؤسسة الأشبال لفترة عمرها لا يقل عن سبعة أعوام، وهذا بدوره يعتبر زمناً طويلاً مقارنة بعمرنا الصغير وقتذاك. وكنا في مراهقتنا نفاخر على التنظيمات الأخرى بجرأتنا وخبراتنا إضافة إلى قدراتنا التدريبية العالية مقارنة بهم.

تقدمنا شعاراً إثر شعار، نسابق وقت الصائمين قبل خروجهم للشارع بقصد صلاة المغرب والتراويح أو للمشي في شوارع المخيم الرئيسية للتسوق أو “الكزدورة”. وما أن وصلنا إلى موقف “السعادة” الواقع قبيل مدخل المخيم بقليل، حتى أطبقت علينا سيارة “لانسر” خضراء نزل منها ثلاثة عناصر مسلحين وبقي رابعهم الجالس جانب السائق في مكانه- عرفت لاحقاً أنه النقيب “أحمد كوجان”- وفي أقل من نصف دقيقة تتبعها سيارة “لاند روفر” كريمية اللون وكنا نعرف أنها تتبع سيارات “الضابطة الفدائية”، على غير عادة سيارات المخابرات وقتها التي كانت بسيارات “بيجو 504” و”بيجو ستيشن”، نزل جميع المسلحين، أحاطوا بنا، طلبوا هوياتنا، وسألونا إلى أي تنظيم نتبع، وقتها شعرت أن الزمن دخل في مجمدة، نشف  ريقي، وصارت الكلمات ثقيلة، وأنا أعي أن الوقوع في قبضة الأمن سيكون نقطة فاصلة في حياتي.

في ثوان زجوا كل واحد منا في سيارة بعد تكبيل اليدين للخلف ومضوا سريعاً في شوارع دمشق الفارغة. حاولت النظر من تحت غطاء العينين والتي تسمى بعرف الأفرع الأمنية بـ”الطميشة”، محاولاً معرفة أين يمضون بي، لكن أقذع الكلام واللطمات كانت تقف بالمرصاد أمام تلصصي، لنصل بعد عدة دقائق إلى فرع “الضابطة الفدائية” في منطقة “الروضة”- هذا الحي الذي يعتبر واحداً من أفخم أحياء البرجوازية الدمشقية، والذي يقطنه كبار رجالات السلطة والسفارات-. ما أن وصلوا بنا إلى مدخل البناء حتى رفعوا “الطميشة” عن عيوني، لأرى عدداً لا يقل عن عشرة عناصر يبدو أنهم دائمي الجاهزية لأي استقبال بالهراوات والأكبال السوداء الغليظة والمجدولة حسب الطلب )ثنائي، رباعي..(، لم يكن يهمهم أي معلومة الشخص القادم لا من قريب ولا من بعيد )اسمك، عنوانك، عمرك، وظيفتك،…… (، فهذا شأن غيرهم، ما يهمهم هو شكل الاستقبال اللائق بسمعة المحل، والذي يبدو لي أنهم قد تدربوا عليه بعناية فائقة، حتى لا يضرب بعضهم بعضاً في حفلة الاستقبال المسعورة، والتي قد تستمر لعدة دقائق بوحشية قل نظيرها، مصحوبة بالصراخ والقهقهات والضرب بكل ما آتوا من قوة، غير عابئين بمكان الضربة أو صرخات المعتقل. لن أنسى اللحظة التي دفعني بها أحد العناصر من أعلى الدرج إلى أسفله بعد الاستقبال الأولي عند مدخل البناء، وأنا أتساقط مترنحاً مختل التوازن بسبب القيد المشدود إلى الخلف والشاد على معصمي، ليرتطم جسدي المتهاوي على جدار صغير بالقرب من باب “المجهول”.

بحركة سريعة سجلت عيوني مسحاً للمكان، الجدران كانت سماوية اللون قبل بهتانها  واتساخها، لكنها تختزن كل صرخات وعذابات من مروا في حناياها، الباب العريض أسفل الدرج والذي يفتح على صالون واسع أشبه بـ”الكراج” رغم وجود عدة طاولات مكتبية معدنية، مع إطارات السيارات، ،العصي، والكرابيج المرمية بشكل عشوائي هنا وهناك، ومنها ما كان معلق على الجدران، كما وجد في الزاوية اليسارية سرير عسكري غير مرتب وفوقه نافذة عريضة تفتح على حديقة بعرض لا يتجاوز الستة أمتار.

دفع بي أحد العناصر واضعاً وجهي إلى الجدار، زاجراً، منبهاً إياي بالثبات على هذه الحالة وبعدم الالتفات في أي اتجاه،  سمعت صوت “حسين” بعد أن صرخ به صوت الشخص الذي كان يحدثه وطلب أن يخرج كل ما في جيوبه، وينزع حزام بنطاله وشواطات الحذاء، وبدأ بتدوين بياناته الشخصية، بعدها أتى عنصر آخر أخذاً إياه إلى باب جانبي، ليجرني آخر إلى جانب الطاولة فاكاً قيودي، ومطالباً إياي بنزع الحزام وشواطات الحذاء، وكذلك مفرغاً ما في جيوبي أيضاً، والتي كانت تحوي بعض القطع النقدية المعدنية، علاقة مفاتيح على وجهها الأول علم فلسطين وعلى وجها الآخر شعار “العاصفة”، فسارع السجان بسؤالي إن كنت أنتمي إلى حركة “فتح”، والتي كانت تنظيماً محظوراً حسب توصيف المخابرات السورية ومن يدور في فلك سلطتهم وقت ذاك، لم يكن جوابي بالنفي أو التأكيد يهمه، ولا حتى كوني شخصاً يتحرك دون حمل أي بطاقة أو تعريف شخصي. بعد أن أنهى تسجيل البيانات الأولية أمسكني من طرف قميصي وقادني إلى ذات الباب الذي أدخلوا فيه “حسين”، كانت الإضاءة في المكان خافته، وكانت تتقافز في رأسي كل القصص التي سمعتها وقرأتها عن ظروف الاعتقال، كما كانت كل خطوة وكل لحظة من هذه الثواني تقودني إلى مجهول أكثر غموضاً من سابقيه، فتح باباً خشبياً لم أستطع أن أتبين لونه لشدة اتساخه، كما أني شممت رائحة قوية وكرية، سوف أكتشف فيما بعد أنها رائحة هي مزيح مجبول لتعرق حوالي أكثر مئة شاب بملابسهم المتسخة المتداخلة من اتساخ المكان والأغطية البسيطة المفروشة على الأرض )يطآات وبطانيات( مع روائح التغوط والبول التي لا تجد لها مخرجاً متداخلة أحياناً برائحة الفساء. فتح الباب على عالم لم أشهده من قبل، ولا حتى في أكثر أفلام السينما قبحاً، بالكاد استطاع هذا السجان إدخالي إلى علبة السردين المضاعفة، للوهلة الأولى لم أستطع أن أتبين أي شيء نتيجة الإضاءة الخافتة، شككت أن غشاوة سوداء خيمت على نظري، وكذا ضاق نفسي منذ اللحظة الأولى، لولا أني سمعت اسمي بصوت “ماهر”- أحد أصدقائي في الأشبال- والذي كان قد تم اعتقاله قبلي بأربعة أيام. بدأت رويداً رويداً أميز الوجوه، فجل من حشروا من أبناء المخيمات في هاتين الغرفتين التي لا تزيد مساحتهما عن عشرين متر مربع والمتداخلتين مع مرحاض صغير بباب مشرع إلا من “بطانية ممزقة تستر عيبه.

تتزاحم الأسئلة من حولي وحول “حسين” حول آخر الأخبار في الخارج، وهل يوجد أي تحرك من أجل إطلاق سراحهم، وعما إن كان أهل المخيم يعلمون باعتقال هذا الكم الكبير من الشباب، إثر عدة مظاهرات كانت تخرج بعد الإفطار للتنديد بالمجازر التي بدأتها “حركة أمل” مدعومة من قوات النظام السوري.

اقترب مني “صلاح” الذي كان جارنا في الصغر، حاملاً قصعة فيها بقايا من الفول المصري الصغير- الذي كنا نأكل مثله في معلبات معسكر الأشبال-  ومزق من خبز، طالباً مني الأكل حتى أستطيع المقاومة- من وحي خبرته السابقة- كوننا قد تجاوزنا وقت طعام الإفطار بحوالي ساعتين، وبأني بحاجة إلى الصمود، لأن القادم الذي سوف أشهده قد يكون أسوء.

كان السجان يأتي بين الفينة والأخرى لينادي على أحد أسماء المعتقلين للتحقيق معه، كانت غرفة التحقيق هي ذاتها الصالون المجاور وهناك غرفتين أخريين تتوزعان من الصالون، لن أنسى أي ألم في روحي حل بي حين سمعت من خلف الباب صراخ الشاب الذي كان قد أخرجوه قبل قليل، وكيف كانت علامات السياط محفورة على ظهره وهو يتقدم من الباب بخطوات فكحاء عند عودته، بدأت أدرك أني ملاق ذات النصيب عاجلاً أم آجلاً لكن ما كان يخفف هذا الألم هو التفاف الشباب حول الشخص ومواساته.

في حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً، بدأت حفلة الاستعداد للنوم من خلال أن يتمدد كل شخصين متقابلين كل على جانبه الأيمن )رأس وكعب .. والمعروفة في المعتقلات باسم التسييف.. ( ويأتي ثلاثة من الشباب شديدي البنية ليفعلوا مثل فعل الملزمة، يدفعون بأرجلهم كل هؤلاء الأشخاص الممددين على الأرض القذرة من أجل أن يتسع هذا المكان القبر لنوم الجميع. كان أن تمددت مثل الجميع، وحين بدأت عملية الضغط/ الكبس شعرت أن قفصي الصدري قد صار على إستقامة واحدة مع عمودي الفقري وفيها صار الصدر والظهر على ذات المساحة، شعرت بالضيق والإختناق، حاولت الخروج لكن هيهات، فأنا الممسوك مثل الجميع بعملية ضغط معقدة، كنت أظن أن هذه الليلة لن تنتهي، لكن قلقي والتعب الشديد كان أضعف من حالة النعاس التي داهمتني واحتل كامل الليلة الأولى لأغط في نوم عميق في محاولة للهروب بها من غد جديد ينتظرني فيه فصل من عذاب آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − 8 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى