اللامنتمي

الخذلان صفة من صفات الطبيعية، غير محصورة بالبشر فقط كما كنت تظن
يحدث أن يخذلك أصدقاؤك
-الأحياء منهم والأموات-
أن يدعونك وحيداً تقلب دفاتر الليل التي لا تنتهي دون أنيس
أن لا تجد من تقول له في آخراليوم” قد كان يومي متعباً”
أن تجلس وحيداً تحت ظل شجرةٍ تستمع إلى أغنيةٍ جميلةٍ لفيروز، دون أن تشعر بالطمأنينة المرافقة لصوتها مثلما كان يحدث عادة.
أن ترتب المكان لتسهر مع الجميع، تصنع ابريق شاي كبير، توزع الأكواب في أنحاء الغرفة، لكن… لا جميع هنا!
لا أحد هنا ليشرب الشاي، فتبقى الأكواب ممتلئةً كما هي لأيام.
يحدث أن تنادي في الصباح على أحدهم ليصنع القهوة لك وله – لكما- ، فتسمع صدى صوتك يلف أرجاء المكان ليؤكد لك بأن لا أحد هناك يسمعك، لكنك تستمر بالنداء لعلك تحمي حنجرتك من التكلس و النسيان، للحنجرة أيضاً ذاكرة يسقطها الغياب.
يحدث أن يخذلك المكان.
لا تجد متسعاً من الأرض يكفي لتدرب قدميك على المشي السريع ليلاً لتحافظ على ركبتيك كي لا يأكلهما الصدأ،
تفتش عن مكانٍ تريح فيه أذنك من الضوضاء، فلا تجد إلا الخط الفاصل بين القاتل والقتيل، وصوت المدفع أنيساً لك
تبحث عن زاويةٍ تطل على وادٍ أو نهر، أو حتى مستنقع! فلا تجد إلا زاويةً تطل على مقبرةٍ بعثرت القبور فيها بيدي خائف، فالمقبرة حراسها قناصة يكبرون بقتلاهم
يحدث أن يحاصرك المكان… أن تحفظ تفاصيله كبيتٍ صغيرٍ لا تمتلك خياراً بتغييره، أو حتى الابتعاد قليلاً عنه
تريد مكاناً ، و لاتجد ركناً يصلح لخلوةٍ عاطفيةٍ لاتنتهكها عيون الفضوليين
ثمّ لا مكان أيضاً يتسع لقبرٍ اضافي لشخصٍ تحبه، تدفنه في حديقة منزلك فيتغذى بكامل حصته بما يلزمه من الوحشة
يخذلك الزمان
ينتهي نهارٌ جميلٌ مرَّ صدفةُ بين يديك بسرعة البرق دون أن تمتلك الوقت الكافي لتخزين التفاصيل الجميلة، يخذلك حين يطول يومٌ آخر إلى ما لانهاية حين يستوطن الحزن قلبك
حين لاتجد وقتاً ترتدي فيه ثياباً جديدة!
ثمّ يخذلك الوقت… حين يزداد عمرك عشرة مراتٍ يومياً، و تتنازل عن تكرار مقطع قصيدةٍ لدرويش؛
” للحياة أقول انتظريني “
يخذلك الحب
حين يفقد سكينته، خاصيته الأساسية، فيغدو مصدراً من مصادر التشويش، يعذبك ويمارس ساديته عليك كما لو أنك كلبٌ أجرب.
يخذلك حين لا تجد متسعاً لحضٍن يحمل عنك ما حملته الحياة لك من عبءٍ وفوضى
تخذلك الحرب
حين تحملك إلى أعلى، ثم كنيزك طردته المجرة من فلكها تدعك ترتطم بالأرض.
حين تحيل الحياة عبثاً، لا أفق فيها ، ولا جدوى حتّى من الاستيقاظ صباحاً
تخذلك حين تسخر منك، من حلمك الساذج الذي طالما حلمت به في صغرك؛ بحربٍ على طريقة حرب طروادة، تكون فيها أخيل، لتكتشف أنك أصغر من جنديٍ تافهٍ لا اسم له
يخذلك الموت
حين تسير بطريقٍ سبق أن سقط فيه عشرات الشهداء برصاص قناصة ذهاباً و إياباً، دون أن يعيرك القناص المتعجرف أدنى اهتمام
حين تكلف جهةٌ ما رجلاً أحمقَ مبتدئ لا يجيد التصويب باغتيالك! فيطلق ست رصاصاتٍ نحوك، تستقر واحدةُ فقط في جسدك وتترك فيه ندبةً لا تتجاوز حبة القمح.
يخذلك الموت…حين يتشفى بك وأنت تغطي وجوه أصدقائك بالتراب، دون أن يعير انتباهاً للدموع المنهمرة على جسد الضحية.
يخذلك حين يطمئنك الطبيب بأن قلبك سليم، وشرايينك بكامل صحتها، ولا خوف على حياتك من جلطةٍ دمويةٍ توقف هذه المهزلة الكبيرة المسماة زوراً حياة” “