بوح المنافي

تمشي في أحد شوارع برلين السياحيّة قاصداً منطقة المتاحف هناك.
تلوّح يميناً وشمالاً برأسك المشويّ تحت نار الشمس العجوز الهادئة راجياً من الله أن يوفقك بصورةٍ أسطوريّةٍ تصطادها قبل العودة إلى الفندق من غزوة يومك السياحيّ العظيم هذا.
فجأة،ً تقف مذهولاً لا تصدّقُ ما تراه عيناك..
إنّك حقاً تشاهد إعلاناً كبيراً معلَّقاً على كتف إحدى المتاحف العملاقة تنويهاً لافتتاح معرض حضارة سورية القديمة الذي قد تم بالفعل في وقت ما من السنة.
هنا تبدأ موسيقى الأفلامِ التاريخيةِ، الرومنسية والحربية تنهال على رأسك كوابل من المطر الاستوائي، و من ثم تبدأ التخيلاتُ بالتسلل إلى عقلك الباطن ساحبةً إياك إلى عوالمَ مذهلةٍ من الذكرياتِ الجميلة و الحسرات المريرة.
يستمرُّ عقلك باستحضار الذكريات و الموسيقى التصويرية المناسبة لها إلى أنْ يقاطعَك صوت موسيقى الاوكورديون المنبعثة من إحدى زوايا ذلك الشارع الجميل.
تستلّ كاميرتك بكلّ ما أوتيت من شوق دفين لكي تؤرّخَ اسمَ سورية على حائطٍ أوروبيّ عريق.
تلتقطُ صورتَكَ الثمينة، ترتسمُ على محيّاك نشوةُ النّصر، ثمّ تدخل في دوامة مشاعر متناقضة:
تفخرُ برؤية العالم يحتفي بماضيك المجيد، ويعتصرك الحزن على حاضرك الأليم؛ إذ بِتَ شريداً وحيداً تنظمُ القوافي على قارعةِ المنافي.
تسيلُ دموعك رقراقةً من عينيك، و تصل حدودَ ثغرك فتستحيلُ ابتساماتٍ ملؤها نوستلجيا مزركشةٌ بقطرات مطرٍ تعانق تُرْبَ مدينتك المخضّبَ بأنسامِ الفجرِ وأثمانِ الحرّيّة المنشودة.
تمسحُ عبراتِكَ بمنديلك الأوروبيّ المُعَطَّرِ، ومن ثمّ تحدّقُ -للمرة الأخيرة- في عينيّ التمثال الموضوع في ذلك الإعلان الضخم، و تقول له: “آسف يا صاح، لقد تشرّدتَ في الأرضِ مثلنا، ولم نستطع أن نحميك و نبقيك في موطنك”؛ فيجيبُك عقلُك الباطنِ على لسان التمثال: “هوّن عليك يا عزيزي، أخوك الأكبر باعكَ وباعني، شرّدَكَ وشرّدني، ولن يعودَ ثمثالٌ مثلي إلى بلدك حتى تَسقُطَ كلُّ الأصنامِ هناك!”.
تكملُ بعدها طريقَكَ كأيّ تمثالٍ شريدٍ وحيد، تعود إلى قواعِدِكَ، وتستلّ قلماً تنقشُ به خاطرتك هذه لتظلّ محفورةً على جدارِ الزّمن.