ذاكرة مكان

أمي لا تحب زياد الرحباني

لم أكن أقف في ساحة الأمويين لأتأمل انصهار الألوان الساحر الذي عكسته حبال المطر على كل شيء متحرك، ولم أمعن النظر في قاسيون كعادتي كلما أمطرت وبدا خلف المطر آلهة رومانية كانت تُعبد، في ذلك اليوم كنت شاردة الذهن في رسم خطة محكمة تمكنني من الذهاب لحضور حفلة زياد الرحباني المقامة في دار الأوبرا آنذاك.

أصدقائي كلهم قرروا الذهاب للحفل، و أنا بدأت أبحث عن مخرج ،ترى كيف يمكنني مرافقتهم ولم يمضِ على وفاة جدي سوى أسبوعين، نعم كنت حزينة لغيابه لكني لم أستطع أن أُخمد فرحتي بقدوم الرحباني إلى الشام، وأنا التي قضيت مرحلة المراهقة مستمتعة بسماع أغنية “عايشة وحدا بلاك” كلما صدحت من مسجلة ابن الجيران الحب الأول والجرح الأخير، ثم كيف سأقنع أمي بالفكرة وهي التي تكره زياد وتقول إنه لحّن أتفه أغنيات فيروز وأكثرها سخفاً على الإطلاق، نظرية منطقية، يقول أبي، إذ ان عشق امي لموسيقا أبيه وعمه المنسابة مع حنجرة فيروز الذهبية جعلها ترفض أي لحن دخيل عليهما،

حملت حينها على عاتقي مهمتين، الأولى تتمثل في إخفاء نيتي الذهاب للحفل عن الأقرباء والجيران حتى لا أصير علكة في فمهم، والثانية في الحصول على موافقة من أبي وإقناعه في أن يقنع أمي بأن تحب زياد ولو فقط  في هذا اليوم،

تخطيت مبدئياً المرحلتين بأمان قبل أن أفشل في اللحظة الأخيرة بتنفيذ خطتي،

ثمّة سببٌ كان الأقوى فرض نفسه وفرض علي المكوث في المنزل، يومها وفي تلك الليلة الشتوية زارتنا عائلة صديق والدي الفلسطيني العراقي ماحتم على والدي التراجع عن وعده السابق لي،

لاأدري لماذا لم أظهر حينها أي ردة فعل من قراره الجديد، لكني أذكر أني كنت متحمسة لرؤيتهم وربما هذا ماخفف من غضبي.

صحيح أني لم أكن أفهم من كلامهم ماذا يعني أن تسقط بغداد وماذا يعني أن تكون عمر أو علي في بلد شرّع الموت فجأة، لكنّي كنت أتعاطف وأنجذب إلى قصصهم الهاربة من العراق ثمّ من مخيم التنف إلى دمشق ( مخيم أقيم على الحدود السورية العراقية عام 2003 يضم آلاف الفلسطينيين الفارين من الحرب في العراق)

قصص تحتوي كمية من الدراما جعلتها اشبه بسيناريوهات هاربة من هوليوود

لم أر الرحباني في ذلك النهار الشاق حتى الآن، وأذكر أني نمت يومها وأنا أردد أغنيته “قوم فوت نام وصير حلام انو بلدنا صارت بلد”

وأذكر أيضاً أني لم استيقظ من هذا الحلم إلّا حين قرعت الحرب طبولها، فشهدتها تلتهم ابن الجيران الحب الأول والجرح الأخير ووجدتني مرة أخرى في ساحة الأمويين نفسها أعبر أولى خطواتي كنازحة معتبرة في السجلات الرسمية، وقفت هناك محاصرة بين ما خلّفته أغنيات الرحباني من ذكريات وأثر في نفسي، وبين موقف أمي الثابت رغم مرور السنين، هي لاتحب زياد الرحباني وهذا حكم غير قابل للاسئتناف مهما حدث، حينها فقط حققت حلمي أخيراً في أن أصبح كأفراد عائلة صديق والدي بطلة من أبطال هوليود مع فارق بسيط جداً أنني أدركت جيداً ماذا يعني أن تسقط دمشق….!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 + 8 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى