ابداعخاطرة

لست سوى ما وراءك

أول الأمر وآخره، هما بصمة الحدث في عقول الأبطال والشهود، و فتق الذاكرة بينهما فسحة لغربلة الصدمة، والصدمة ارتطام الزمان والمكان بنا – كلّ منّا على حدى – كانهيار قشرة الأرض المفاجئ على طريق سريع،  نعم، إن من حقنا أن ندافع عن أنفسنا في وجه نزوة الرضوض.

ليس الأهم الذي نخوض فيه، بما تعنى به المقالة، هو إدارة الصدمة الممارسة علينا كمجموع مسماه الشعب السوري، منذ أيام الأسد الأب حتى هذه الأيام التي أديرت فيها دفة الثورة السورية لتصبح حرباً مترامية لا حدّ لها، ولكنّ بعض الدراسات رجحت أن الآثار السلوكية للصدمات يتم توريثها من الآباء للأبناء، أي أن هناك أثر سلوكي لدينا، نحن شباب الثورة، ناتج عن الصدمات التي مرت على شعبنا منذ نكسة حزيران إلى أحداث مدينة حماة وما تبعها من اعتقالات خبط عشواء لم تترك بيتاً سورياً إلا وأنقصته، هذا بالإضافة للصدمات المتدارِكة منذ ٢٠١١ إلى يومنا هذا، والمقصود بإدارة الصدمة هو استخدامها من أجل تدجين الشعوب لتصبح مطواعة في قبول واقع سياسي واجتماعي واقتصادي جديد، ما كانت لتقبل به لولا الظرف الساحق الذي مرت به.

ولكن عنايتي تختص في أثر الصدمة على الإبداع وذاكرة الكتّاب والفنانين، ولعل أكثر ما أثار عجبي خلال بحثي دراسة عن العلاقة بين الصدمة والإبداع أجراها الدكتور روبرت ميللر، كانت نتيجتها أن الناجين من الصدمات لديهم قدرة على التعامل مع المجاز اللفظي والرمز التعبيري واللعب مع الخيال أكثر بكثير من غير المعرضين للصدمات، فهل يمكن لحدث عاصف أقوى من إمكانية الدفاع الفيزيولوجية والنفسية أن يكون ملهماً لقصيدة أو للوحة عميقة الخيال متماسكة اللبنات والطلى؟ ، ولسنا نعني بذلك الملازمة الحتمية بين رفعة الإبداع وبين تعرض صاحبه للصدمة، فالأمثلة على المبدعين الذين عاشوا حياة رغيدة وربما دعمتهم أنظمة سياسية حاكمة أكثر بكثير من أن تعد.

وكثيرة هي أيضاً الأمثلة على الهامات العالية التي عانت من صدمات قوية وأبدعت نتاجاً أدبياً وفنياً رفيعاً /بشار بن برد – أبو العلاء المعري – طه حسين – بيتهوفن – ديفيد رايت ….إلخ/، إنما كانت معاناة هذه الشخصيات ناتجة عن رضوض فردية خاصة (العمى أو الصمم …إلخ)، لكنّ أمثلة مثل محمود درويش ومظفر النواب ومحمد الماغوط لا يمكننا أن نعزلها عن المعاناة العامة في القضايا الوطنية والقومية العربية التي عايشوها سياسياً واجتماعياً، على هذا يمكننا أن نتنبأ بقصائد معجزات للشعراء السوريين الذين خاضوا غمار الثورة والحرب والاعتقال والحصار والتهجير، إلا أن الحقيقة قد تكون في غير دقة هذا، إذ أن الشعراء وغيرهم من المبدعين هم أفراد في هذا المجتمع، ولا يمنحهم إبداعهم إعفاء من آثار الكوارث الوخيم على الذاكرة والسلوك والحالة النفسية، ناهيك عن الدمغجة التي يمارسها مديرو الصدمات عليهم كأفراد من مجموع بشري مستهدف.

وقائع الحرب متشابهة بأمرائها وشجعانها وعملائها المزدوجين وتجارها وضحاياها، تحكمنا البداية والنهاية ذاتها، يصبح القتلى قوائم ليس إلا

كأول الحب تطلع الحرب على وقودها ناصعة المرامي سامية الغاية واضحة الهدف، كل شيءٍ معدّ للنصر، الرجال شامخون بسلاحهم اللامع، ويملأ قلوب النساء الأمل، إنّ غداً لنا بمباركة الله؛ الأمل يلهي الجانبين، تعلقهم الحرب من سيوفهم في فضاء المشهد، وليس في مسرح الموت حضور، كلهم أبطال مؤقتون، يطرؤون ويتلاشون في غياهب التلافيف، تأكلهم أحصنة البحر، ونحن الشهود المصدومين بهول الحس المداهم، نخرج من فلك سيرنا الذاتية، تأسرنا ذاكرة اللحظات الساخنة، نسوق أحلامنا كقطعان النّو، نطعمها حشيش القلب، نهش عليها بدخان سجائرنا، مهاجرون للحقيقي فينا، في كل راحةٍ يردي ذئب التفاصيل فريسته من هذا القطيع، يا لذئب التفاصيل؛ يبدأ غريزته بالفحول الكبيرة، نُنسى لنصبح مرايا عن سوانا.

نعم، إن الذاكرة تؤكل، فالمصدوم يدافع عن نفسه بالنسيان، حيث يختزن ذاكرة الرض وما نتج عنها من ردات فعل وخبرات في اللاشعور الذي يصعب استرجاع الذاكرة منه، ولنا أن نتخيل مبدعاً خالي الذاكرة يحكمه الواقع، لما فيه من تناقضات، بحالة من عدم الإدراك، مع ما تمارسه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من نقل مضلل عن صورة هو كان أحد أجزائها، وربما يضطر لقبولها كما تم تحريفها لا كما عاشها، ولمن وعمن تكون الكتابة والفن بذاكرة تشبه الخواء؟.

الحرب مثل المعتقل ترسخ نفسها بتكرار وقائعها في حياتنا اليومية؛ وقائع الحرب متشابهة بأمرائها وشجعانها وعملائها المزدوجين وتجارها وضحاياها، تحكمنا البداية والنهاية ذاتها، يصبح القتلى قوائم ليس إلا، ودوران الشمس عادةً تفرض علينا سلوكاً آلياً، أكوام بشرية تردم هاوية المصيبة وتنسى حصة الأجيال من مأساتها، تبقى ساحة الحرب ويسقط الزمان ونسقط، لسنا سوى بداية الحرب ونهايتها.

أي أن الذاكرة المستدامة التي يترسخ حفظها في الأحداث المؤثرة تصبح نسخة واحدة في عقولنا، وذلك لأن الحدث اليومي في الحرب وكذلك في المعتقل هو حدث روتيني مكرور، وأكثر ما يكون وضوحاً في ذاكرة الرضوض هو أول الحدث وآخره، بمعنى آخر تترسخ لدينا بداية ونهاية الأحداث المكرورة، أي بداية ونهاية واحدة، إنها ذاكرة ضئيلة أمام سنوات طوال من العنف المستمر.

والحرب تكتبها الأغاني وحناجر النساء المبحوحة، ولعل هذه قدرة جمعية على امتصاص الصدمات في الوقت الذي تعجز فيه غالبية الأفراد عن ذلك، والتراث الذي تدوّنه المحكيّات والأهازيج الشعبية والمواويل يبدو توثيقاً فسيفسائياً شبكيا للمراحل الزمنية الصعبة، وربما يحمل أيضاً في جزئياته الموقف المجتمعي العام من الحدث، ولكنّ الرواية والموقف الذاتيين يغيبان في الموقف العام، فالموت لم يكن حكاية عامة بل كان في آلاف الحكايات الخاصة، والمعتقل ليس صورة إجمالية عن ممارسات ثابتة بل كان قصصاً مختلفة بكيفيته وآليات التحقيق والتغييب والتعذيب والقتل، فالذاكرة الفسيفسائية الحقيقية هي جمع السير الذاتية والخبرات الفردية في لوحة واحدة تفصّل، ولا تختصر، مرحلة زمانية ومكانية كاملة، ربما يستفيق شاهدٌ كهلٌ فيسترجع الحدث “الحرب أو المعتقل أو الحصار” أمام أحفاده ذات صيف، ربما يذكّره بها لون البطيخ أو طقطقة حفيده الصغير بأنامله الغضة، لكنّ أحداً لن يصدق مسنّاً بعد طول صمت، الحرب قصة النسيان، ما لا نحب، ونحن ننكر ما لا نحب، ذهول الشهود هو فاتحة التاريخ المزوّر الذي نصدقه بملء عجزنا عن حفر آبار الذاكرة، سيقرأ الشهود عن أنفسهم ما لا يعرفونه وسيكون صمتهم دلالة صدق الكتّاب الهواة على قارعة التجارب الصعبة، ومن للكتّاب الهواة إلا ضحايا الأزمات؟

كلما كنت بسيطاً واضحاً كانت الحرب سهلة عليك وكنت سهلاً على نهاياتها منتصراً أو مهزوماً، فلا تدافع عن ذاتك بالنسيان، وإذا كنت مع القلة الناجية تحدث عن لا شعورك،  أنت الدليل على الاحتدام، ولست سوى ما وراءك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى