ذاكرة بحر

بحور الذاكرة

لكل من ترك ذكراه في زقاق ورحل …

 

مرت هذي السنوات الثلاث وما احتاج الى أكثر من ذلك حتى عرف أن كل شيء كان هناك قد رحل مع أول موجة ركبها  أو مع أول خطوة انطلق بها الى تلك الصحراء، عاد كل ذلك الى ذهنه  وهو يسترجع المكان الذي خرج منه بفعل قذيفة لم يُعرف من هو مطلقها، كل الذي عرفوه عنها أنها قتلت ذاك الصغير .

من زقاق تزوره الشمس كلّ يوم من الساعة العاشرة الى منتصف النهار فقط، خرج الى صحراء لا تغيب شمسها حتى تحرق كل ما تبقى من مسامات العرق في رأسه وجبينه، ومنها الى البحر، وهناك كانت المعضلة فالماء ليلاً يكون كلوح من الزجاج، لا شيء خلفك ، لا شيء أمامك وبالطبع لاشيء الى جانبيك، وللنهار بشمسه ايضاً جزء من تلك الذاكرة فما كانت شمس البحر أقل رأفةً برأسه من شمس الصحراء.

خرج صغيرهم إلى أول ذاك الزقاق ليشتري زجاجة عصير، في الوقت الذي شارفت فيه شمس ذاك اليوم إلى المغيب ،صوتٌ أول، انفجار هزّ كل تلك الازقة التي تكاسلت على مر سنين النكبة أن تنهض من سباتها  وأثقل كاهلها سنوات طويلة من اللجوء، وقف الصغير مذهولاً وهو يرى قطعاً من النار تتهاوى إلى زقاقهم كمطر شيطاني يتسابق ليحرق رؤوس كل من كان في ذلك المكان، تجمع الناس و اذ بقذيفةٍ أخرى تهوي على رؤوسهم، صراخ من كلّ الازقة، تكبيرات، أشلاء ..

لم يشتر العصير، إلا أنه وكما فعل كثيرون في ذلك المكان .. رحل .

كلّ من بالقارب يتمتم الآن، فذاك يقرأ سورة من القرآن و تلك تندب حظّها وتلعن زوجها الذي زجّ بها وحدها في البحر طمعاً ب ” لمّ الشمل” ، ورضيع يعلو صوت بكائه و ما تلبث أمه أن تجهش بالبكاء هي أيضاً، لم يعرف أحدنا لمَ تبكي الأم وصغيرها إلا تلك التي كانت بجانبها فأخذت الطفل و أرضعته هي، كلّهم يخشون شيئاً واحداً ..

يخشون الموت،

غريب أمره يأتيك فجأةً وعلى غفلةٍ منك يأخذك، يأخذ من تحبهم، يأخذ ذكرياتك، يأخذ منزلك، شجرتك، أزهارك، أرضك، كتبك، يأخذ كلّ شيءٍ وما لا يأخذه الموت يتكفل بأمره النسيان ..

زجاجة عصير ٍ كانت كافيةً لتأخذ ذاك الصغير، و أربعة سنينٍ كانت كافيةً لأن تجعل النسيان يأخذه منّا أيضاً، لم يأخذه فعلياً إنّما أخذت ذكراه الحرب، أخذت سريره، الزقاق الذي دأب على اللعب فيه، أخذت ملابسه، أخذت كلّ شيءٍ ولم تكتف بذلك بل أخذت المكان الذي أخذه منا، و لفيروز نظرية في ذلك الموضوع; أي في جدلية النسيان والحب والتمسك

” وبحبك ع طريق غياب ، بمدى لا بيت يخبينا ولا باب خوفي للباب يتسكر شي مرة بين الأحباب وتطل تبكيني ، ليالي الشمال الحزينة ”

نعم فأنا أبكي هنا في الشمال من ذاك المكان، في كل ليلة أبكي وكلّ ليلة هي ليلة حزينة لي.

بدأ الماء بالتسرب الى القارب، لتزيد التمتمات ويرتفع صوت الدعاء، يرتفع صوت ذلك الشاب الذي علّمه “المهرب” كيف يقود القارب بأنّ الوقود قد نفذ وليس لنا الآن إلا الدعاء، زاد الماء كثيراً في جسد القارب المثقوب و ارتفع صوت الدعاء أكثر .. صوتٌ من آخر القارب أخذ يعلو و يعلو:  ” وبحبك ع طريق غياب ”

سكت الجميع و التفتنا إليه، وجهه شاحبٌ جداً و الكثير من السواد تحت عينيه وهو يكرر جملته تلك، لم ينظر في وجوهنا، بل كان ينظر ويتكلم مع عالمٍ لا نراه،  ليخرج صوت آخر من مقدمة القارب ” إحنا بشو وانتا بشو ” و أخذ صوت الشتائم يحتل مكان له في القارب المثقوب، فجأةً قفز ذلك الشاب في الماء ليتوقف صوت غنائه وشتائم الآخرين، اختار أن ينهي حياته قبل أن ينهيها البحر، لم أقو على تفسير فعلته تلك،

لقد تكبد عناء الخروج من هناك الى هناك ومن ثم الى هنا، كان باستطاعته الموت هناك، فهناك لديك أكثر من طريقةٍ للموت، قنصاً أو قصفاً أو جوعاً أو قهراً ، لقد مات قهراً ولكن بطريقةٍ أخرى ، بطريقةٍ تدفع كلّ من يعرفه ليموت قهراً هو الآخر ، كان باستطاعته أن ينتظر البارجة التي أنقذتنا بعد ساعتين من الدعاء والشتائم والصراع مع الموت في البحر الذي لم يرحم أحداً.

وهناك على متن تلك البارجة، على ظهر ذاك الخلاص المنشود في طريقنا الى منفانا الجديد، تلك البارجة التي ظهرت من اللاّ مكان،  من وسط البحر لتنقذنا من ذاك المكان – كان باستطاعته أن ينتظر – وكان باستطاعة أمي أن تنتظر قبل أن ترسل أخي ليجلب لها العصير.

كلّ ذلك كان برأسي قبل أن يأتي ويمدّ لي بيده علبة عصير وكأس ماء ..

علبة عصيرٍ أخذته منا – امي لم تنتظر-  وفي علبة العصير ذاتها كان خلاصي على متن تلك البارجة ..

 

 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر − اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى