عا الموت يا صاحبي
لقد كان يحفظ طريقه الى ذلك البيت كما الخطوط المرسومة في كف يده، حتّى أنّه يكاد يصل الى هناك معصوب العينين إن أراد، كانت قدماه تدلانه إلى الطريق دون أن يتدخل عقله في رصد التضاريس وصحة الاتجاه.
يسير إلى هناك بشكل شبه يوميّ بخطواتٍ ثابتةٍ لا تقبل الشك، والهدف دائماً معروفٌ وواضح:
“رايح أشوفو وأعرف شو بدنا نشتغل بكرة” يقول
أجيبه:
“طيب سلم عليه وخليه يميل المسا عليّ، خلينا نرتب كم قصة على السريع”
وما أن يصل إلى هناك، حتّى يطلق العنان لصوته بطريقةٍ لاتخلو من بعض التلحين ..
أب جابيييييييييييييييييير…. أب جابييييييييييييييير…. أحماااااد
صوتٌ مجيبٌ يأتي من الطابق الأخير:
إطلع خيا إطلع، فضحتنا
يتراجع فارس بضع خطواتٍ إلى الخلف رافعاً عينيه أعلى البناء، وعبثاّ يحاول رؤية صاحب الصوت الذي يعرفه تماماً..
“غرفة على السطح”
تشبه غرفتي لكنّها أكبر منها قليلاً، تتموضع فوق الطابق الخامس، سقفها من الزينكو وجدرنها ملعبٌ للريح لكثرة الثقوب فيها، فرشها بلا لونٍ لكثرة ما انسكب عليه من قهوة وشاي وربما مشروبات أخرى..
يصعد الدرج كالريح، يصل الى فوق، يرتمي أرضاً ليلتقط بعضاً من أنفاسه
بصوتٍ حازم يقول:
“قوم وَلَااا، سوّي شاي ”
يجيبه ضاحكاً:
” يلعن غيمك، هلق سويت واحد، والله إمي لتدبحني ”
يتحدثون عن العمل، عن الثورة، عن المخيم وعن كلّ شيءٍ يتحدثون، إلا عن أنفسهم، لم أسمعهم يوماً يتكلمون عن همومهم، عن حبهم، عن حزنهم أو عن فرحهم.
لم يكن أحمد ليفكر بأن يترك غرفته على السطح وينزل إلى الأسفل طابقاً، لولا هجمات الهاون التي أخذت تزداد يوماً بعد يوم، حيث وصلت هذه الهجمات ذروتها في مطلع عام (2013) ولم يتغير أيضاً خطّ السير اليومي -بلا موعد مسبق- لدى فارس نحو ذلك البيت ولكن تغيرت طريقته في الدخول، فقد توقف عن النداء بذلك الصوت الجهوري المرح، توقف عن الركض على درجات السلالم خمس طوابق، توقف المزاح الطفولي الذي يسبق الجدّ
لقد توقف كلّ ذلك لأسباب عديدةٍ، من بينها وربّما أهمها كان التعب في ذلك الوقت، وفي ذاك اليوم تحديداً كان اللقاء بينهما مبنياً على موعد.
_خيّا بدك شي؟! خلص الساعة ستة بكرا، عندي بالبيت، تعال ودق الباب الحديد ولا تنادي و تشلق حدى، ولا تتأخر خيا
_طيب خيّا على الستة بكون عندك اذا ما بلاقيك راح لمّ الحارة كلها.
يضحك أبو جابر بصوت مرتفع رغم تعبه الواضح:
“لاتخاف خيّا بتلاقيني.. بتلاقيني.. وين بدي روح يعني بالليل… ما رح يخطفوني الإرهابيين لا تخاف” يضيف ساخراً.
لم يكن اليوم التالي يشبه بقية الأيام لدى فارس، كان منهمكاً ومتوتراً ذلك اليوم بسبب ما يشاع عن وجود خطة لاقتحام المخيم، عقارب الساعة في ذلك اليوم كانت تمشي ببطء شديد، ودّع أصدقائه ومضى نحو موعده كي يصل في الموعد “هاد متل الزيبق بلاش ما يهرب” قال فارس في سرّه
إيقاع خطواته كان بطيئاً من التعب و أنفاسه تعلو و تهبط بصوت مرتفع، كان الطقس بارداً ذلك اليوم
اقترب أكثر من البيت، يداه باردتان كالثلج..
دخل الحارة مطرقاً رأسه، وشارداً يفكر بما سوف يحصل في المستقبل القريب، وصل باب الحديد وطرقه بيده كما اتفقا، ثمّ رفع رأسه
تسمر في مكانه، بدأ قلبه يدق صدره بعنف، حبات العرق النازف من جبينه حجبت عن عينيه رؤية الاسم المكتوب على النعوة الطازجة الملصقة على باب المنزل
أخذت شفتاه ترتجفان، كان لازال يحاول تمييز الاسم المكتوب على النعوة، لم يدر إن كانت عيناه تعجزان عن الرؤية أم أن عقله هو الذي يرفض التصديق
الاسم يوضح تارةً ويشوَش تارة أخرى..
يشعر الآن بجفاف شديدٍ في حلقه، تراجع نحو الحائط القريب واتكأ عليه غارقاً في دموعه و في دوامة من الأفكار والمشاعر المبعثرة وصوت أحمد في حديثهم الأخير لا يفارق أذنيه:
“لاتخاف خيّا بتلاقيني.. بتلاقيني.. وين بدي روح يعني بالليل… ما رح يخطفوني الارهابيين لا تخاف”
تتسرب ابتسامةٌ خفيفة من شفتيه، تعيد إليه بعض من قوته…
يردد قلبه بصوت لا يخلو من السخرية: يلعن شرفك يا أبو جابر على هيك مزحة
يقف بثبات، يداه تغليان، و حنجرته تتهيأ للصهيل.. ينادي ملء قلبه:
أب جابيييييييير… أحمااااااااااد .. أب جابييييييييييييييييييييييييير
تختلط الدموع بالنداء…
أحمد… أحمد… وينك ياخيااااا أحمد .. أحمد
الدموع تملأ المكان… تملأ المخيم ..
رد يا زلمة على أساس عنا موعد، وين رحت يا خيا…
صوتٌ ما يخترق الحزن المكبوت في قلب فارس، يخترق الدموع ويرسم الإرادة نفسها مرة ثانية:
إي اخوي فارس، و أنا بعدني عم استناك .. لا تتأخر…
أدرك فارس ما يريده أحمد، ضغط بعزم على الباب الحديديّ، أغلقه بهدوء..
امتشق سلاحه …وذهب الى الموعد …
لمّا بدك تعرف شو يعني كلمة “معك على الموت ياصاحبي”
منير الخطيب و أحمد كوسا
الخلود لأرواحكما