حصار

رغيف خبز واحد

كشيخ عجوز هدّه التعب، انزوت إحدى الشمعتين اللتين تضيئان الغرفة،  بينما كان لهيب الشمعة الأخرى يعلو ويهبط حتّى كاد أن يلامس الرخام  كراقصةٍ  سكرى أوشكت على السقوط
الضوء الخافت للشمعتين أخفى الرماد الأسود المتراكم على الحيطان والأسقف من فرط الدخان الرصاصي المتصاعد  من المدفأة التي أصبحت تعمل على ما تبقى من أحذية وثياب مهترئة منذ أن أخذت أسعار الحطب تضرب أرقاماً قياسية، طاولة في منتصف الغرفة  يتوسطها إبريق ماء فارغ  تماماً وعلى يمين المدفأة  تربع كرسي هزاز تشي نظافته بأنه دخيل متطفل على الأثاث المهترئ  لذلك المنزل

كان الرجل يذرع  أرض الغرفة ذهاباً و إياباً بتوترٍ وانكسارٍ واضح على وجهه الذي لم يلامس الماء منذ ثلاثة أيام حين غادر منزل جاره العجوز الذي توسله كسرة خبز عندما ذهب ليرى إن كان لازال على  قيد الحياة

فتح باب الثلاجة المعطلة منذ زمنٍ عدّة مرات ليتأكد من خلوها تماماً من أي شيء، دخل غرفة النوم، دخل جميع الغرف يبحث عن شيء يعلم تماماً أنه لن يجده، فتح باب المنزل وصعد ليبحث في البيوت الخالية في طوابق بنايته المهجورة، تلك البيوت التي فتشها عبثاً عدّة مرات من قبل، شعر بالخيبة رغم علمه المسبق أنّه لن يجد شيئاً، استسلم لتعبه وعاد إلى شقته
صوت ابتهالات دينية صادرة عن الراديو تنذر باقتراب موعد أذان الإفطار، ينهض متثاقلاً نحو نافذة المنزل المطلة على سوق الخضرة – سابقاً –  ليشهد حركة المارّة
هناك كان رجال أنهكهم التعب يسيرون دون هدىً، أطفال يفترشون الطرقات يتوسلون شي من الطعام، جائعٌ يتوسل إلى جائع ٍ دون جدوى
بائع واحد فقط ينادي بصوت خافت، حوله بعض المارّة ينظرون الى الحشائش المعروضة دون وجود قابلية لهم لشراء تلك الأعشاب باهظة الثمن و التي غالباً لم تعد صالحة حتّى للدواب
يترك النافذة ويستلقي على سريره صامتاً متأملاً الخيالات التي رسمها الشحار الأسود على سقف الغرفة، لقد حاول جاهداً السيطرة على فيض الدموع في عينيه من الانفجار ولكن …. خان نفسه و بكى بحرقة الأطفال

يقول المذيع في الراديو بصوت واثقٍ:

إخوة الإيمان حان الآن موعد آذان المغرب حسب التوقيت المحلي لمدينة دمشق وما حولها
يسمع صوت الأذان المنقول من الجامع الأموي في دمشق
غفت عيناه على دموعه دون أن يشعر، ليستيقظ ماضٍ ليس ببعيد على هيئة حلم في غفوته
كان يوماً حارّاً من أيام رمضان الصيفية شارفت فيه الشمس على المغيب، الناس تسير بخطوات واسعة وسريعة نحو منازلهم، سائق تاكسي يخرج مسرعاً من شارع المدارس كاد أن يصطدم بمكرو مكتوب عليه  “يرموك كراجات”، بائع عصير التمر الهندي الذي يقف على زاوية مؤسسة الكهرباء يجمع أدواته المخصصة لصناعة العصير مغادراً المكان، “الناعم” تلك الحلوى التي تنتشر في رمضان شارفت على النفاذ حين قرر الباعة البيع بنصف الثمن، رجل يسير على جنب الرصيف مسرعاً يحمل كيساً مملوءاً طُبع عليه بخط أصفر عريض “حلويات ماهر”
الأصوات  المرافقة لإسدال أغلاق المحلات تتسابق متراكمةً على بعضها البعض بطريقةٍ توحي أنّ هناك مايسترو واحد يحرك يديه ليصنع مقطوعة موسيقية  بهذه الطريقة
أيادي المارّة ترتفع  للسلام ، والابتسامة على وجوه الجميع
شابٌ يحمل علبة تمر ويقف على زاوية الشارع  ينتظر الأذان لتوزيع التمر على المتأخرين عن الإفطار
الطريق خالٍ تقريباً من النساء المشغولات بتحضير مأدبة الفطور، طفلة  تسير مع أبيها مرتدية فستاناً أبيضاً جميل
الشمس تختفي تماماً و الطرقات تكاد تخلو من المارّة بشكل كامل، شاب يرخي شعره على كتفه يقف على زاوية حارة فرعية  ممسكاً سيجارته في يده ينتظر صوت الأذان دون أن يعير انتباهاً لكلّ ما يجري حوله
الله أكبر الله أكبر ……… حي على ا لصلاة يرتفع صوت الأذان من مئذنة جامع القدس
طقطقات الصحون تكاد تسمع في كلّ مكان، الروائح تتداخل في ما بينها
الكبة  مع الكبسة، الشاكرية مع اليبرق
الماء و التمر وشراب السوس على كل طاولة ، الخبز متوفر بكثافة
الضوء الصادر من كل منزل يثير البهجة في القلوب، و الشاب يدخن سيجارته  بتلذذٍ واضح

صوت إطلاق نار قريب جداً أيقظ الرجل من حلمه بغتة،

فمه المليء باللعاب ذكره بحلمه، شعر بحرارة الدموع على وجنتيه، حاول النهوض لكن خارت قواه، ثلاثة أيام بلا طعام كانت كافية لتنهكه
طرقات قوية على باب منزله, ينظر من ثقب الباب، رجلُ غريب الهيئة يقف هناك

يفتح الباب بحذر شديد
السلام عليكم:
يرد السلام بشيء من الاندهاش والتعب معاً،  قدم له الرجل رغيف خبزٍ أبيضاً كبير، يحار الرجل في أمره، يتردد للحظات، ينظر أسفل الدرج ثم يدقق ثانية في ملامح الرجل الماثل أمامه، لا يصدق، يمدّ يده بحذر، يتناول رغيف الخبز ويغلق باب منزله فوراً دون حتى أن يشكر هذا الرجل المجهول
قرّب رغيف الخبز على الشمعة الباقية التي تكاد أن تذوب، قرب رغيف الخبز من عينيه، احتضنه

لقد كان يبكي بحرقة، لم يعد من معنى لرجولة تستوجب الحرص على الدموع، تذكر جاره العجوز الذي يحتضر، تذكر الأطفال الجائعين تحت نافذة بيته، تذكر حلمه أيضاً وتذكر الماضي

تكثف البخار كما الأفكار المتضاربة داخل جمجته، توقف عن البكاء ليبدأ في الصراخ، توقف عن الصراخ ليبدأ بالبكاء، يفتح باب منزله و يخرج راكضاً في الشوارع

لقد كان يركض باكياً، لقد كان يبكي راكضاً
رويداً رويداً أخذ صوته يعلو على صدى الآذان الأتية من الجوامع البعيدة، أخذ صوته يعلو حتى على صوت الرصاص المتناثر هنا وهناك، رفع رغيف الخبز الطازج، وضعه على رأسه كراية بيضاء يرفعها مقاتل مستسلم  ثم فتحه و لبسه كقناع بثقبين للعينين كما يفعل المجرمون الملثمون، استمر بالركض والصراخ، حاول إخافة المارّة الخائفين أصلاً، بدأ يضحك ويصرخ، يصرخ ويبكي،

توقف فجأة ونظر إلى الخلف

استرد أنفاسه ثمّ ركض بكامل قوته المتبقية نحو حاجز الجيش أوّل المخيم، أخذ يلهث من شدة التعب والضحك والصراخ والبكاء والجوع، ركض بكلّ ما أوتي من حقد وغضب و يأس و جنون….

رصاصة واحدة فقط انطلقت نحوه، ارتطمت بصراخه قبيل الحاجز بأمتار قليلة، رصاصة واحدة وضعت حدّا لنشوة الجنون المكبوت في صدره

تمدّد قرب حاويةٍ للزبالة كان المقاتلون يستخدمونها كمتراس، اشتمّ أنفه رائحة الخبز الممزوج بدمه الطازج، نام كجنين صغير

باحثاً عن حلمه الجميل، لكنّه لن يصحو مجدداً  هذه المرة

دفنوه  وكُتب على شاهدة قبره:

هنا يرقد رجل الخبز الذي استشهد في مخيم اليرموك زمن الحصار برغيف خبزٍ استقر في  رأسه و رصاصة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 − 9 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى