مأمون في بلاد الحواجز
الحاجز الأول
يُربكني مأمون حين يستخدم أنفه في تذوق نصوصي الأدبيّة، تستشيط اشمئزازاً عصبوناته الشمية كلما وردت كلمة سمك. قد لا يعرف أني أعدت قراءة فيزيولوجيا الشم من ثلاثة مراجع كي أخرج بسطر واحد من قبيل:
“أتتبع رائحتك بغريزة الحيوان الباحث عن فريسته: من ههنا مرت، ههنا جلستْ لساعة”.
أحاول إخراجه من علب السردين والتونا، وترف الكافيار وزنخه؛ أحدثه عن سمكة فاضت عن النهر وسكنت أشجار الصنوبر.
سمكةٍ تذهب إلى عملها كل صباح على دراجة.
سمكة آلهة غادرت سماءها منذ فترة بعيدة وقطنت شقة في مخيم للاجئين، ثم عادت إلى مواقعها بعد أن تركتها هموم الأرضيين مصابة برضوض لن تبرأ.
سمكة تؤمن بما وراء الطبيعة، تقرأ الروايات الإنجليزية، وتشرب الشاي مع كلّ منكهاته (خلا المريمية؛ فهي لم تذهب للتسوق مؤخراً).
سمكة تنزلق من بين يديّ كحروف الذلاقة.
سمكة لها صوت العصافير في هاتفها الصباحي: صباح الخير يا حب! ما رحت من بالي طيلة الليل.
سمكة تجمع الطوابع والورود المجففة.
سمكة تتشهى مضاجعتها نصف كائنات حديقة الحيوان.
لكن لا شيء يشفي غليله، حتّى الحوض الذي زيّنَ به غرفتنا، المزود بمضخة للأكسجين ومصدر للإنارة، كان خالياً من الأسماك. أعرفه حين يقيم جداراً بين الحلم والواقع، ويكفر بسلفادور دالي والأواني المستطرقة،
يصرخ بي: إن كان ذلك كذلك، فهات لي سمكة تطير بي بجناحيها فوق الحدود، تحطم بأسنانها الأسلاك الشائكة، تخترق الحواجز زجاجاً كانت أم من إسمنت مسلح… ثم يسعفه الطغرائي:
لم أرتض العيش والأيام مقبلة …. فكيف أرضى وقد ولّتْ على عجل؟
أحدثه عن تداعيات ليلتي السابقة، عن شهرزاد كما عزفها كورساكوف، أجواء ألف ليلة وليلة تنقلني إلى الليالي العشر في الديكاميرون، أبي تمام تحاصره الثلوج في جرجان فيجمع ديوان حماسته..
ــ مأمون!
ــ إيش خيّا؟
ــ ما رأيك بقص مغامراتك في بلاد الحواجز؟
ــ أعجبني العنوان كثيرا، يلّلا، شرط ألا تذكر شيئا عن السمك.
ــ بناء المودة، القابع في الجادة الثالثة من شارع بيت لحم في منطقة اليرموك، أمسى ومنذ أربعة أشهر ــ لأسباب ليس مردّها الموسم السياحي ــ خاليا من جميع قاطنيه، غير عائلة تسكن الطابق الأول منه، عائلتي..