مأمون في بلاد الحواجز
شاي خيا؟ شاي خيا!
حدثنا أبو القاسم الجنيد- شيخ الصوفية على الإطلاق، وإمامهم بالاتفاق- قال: أشكل المشكلات، إيضاح الواضحات. وحاجّ أحدهم أبا تمام: لم لا تقول ما يُفهم؟ فردّ عليه التحية بأحسن منها: وأنت، لم لا تفهم ما يقال؟ وسأل الخليفة المتوكل جارية له حسناء: أبكرٌ أنت أم إيش؟ فأجابته: أم إيش يا مولاي.
أما وقد استويتَ على فراشك، وأشعلتَ شمعة، وأعددتَ لنا شيئا من الشاي بالنعناع، ولم تسأم من استطراداتي، أو لعلك لم تظهر بعدُ ذلك، فاعلم- حيّاك الله وبيّاك، وسدد على جادة الحق خطاك- أنه بلغنا ممن نثق في علمه، ولا نشك البتة في روايته، أن أبا عثمان عمرَو بن بحر الجاحظ قال في معرض رسالته في “تفضيل البطن على الظهر” كلاما هذا معناه:
هي تحبه، لكنها تحب أكثر حبه لها
وهو يحبها، لكنه يحب أكثر شِعره فيها
ليس صحيحا، لكن ما العمل وبينهما قبائل موغلة في الوثنية؟
مؤخراً لا يلعب الشطرنج، لا يشاهد أفلاما، لا يستمع إلى موسيقا، لا يقرأ. تشغله هواية جديدة: يطاردها وهي تقفز من لوحة تكعيبية إلى أخرى، يستمطرها وهي تسقي نباتات الشرفة، يتأملها وهي تستلقي على الكنبة، يقرؤها وهي تتصفح كتبه، يلتهمها وهي تعد الغداء، ويعوذ بجسدها من رعبه الوجودي فيرتفع بها صوب الغمام، مثلما ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، واستنطاء طيء، وعجرفة ضبة، وتلتلة بهراء..
ــ عمن يتحدث جدّك؟
ــ عن ساكنَي الطابق الثاني، الزوجين الشابين.
ــ شغفٌ من الألف إلى الياء.
ــ لكنما في كل ليلة يحدث ما يفسد كل شيء: فجأة يشتم دينها ودينه، يحطم بعض الزجاج والأثاث الخشبي، ثم ينهال عليها ضربا؛ أمسِ مثلا دميت لثتاها ورعف أنفها. وحين يسكت عنه الغضب يهرع نحوها معتذرا، يقول لها وهو يقبّل يديها:
خذي رأسي في صدرك
حتى أتنفس بالكاد
ودعيني أبكي
حتى أبلل حمالة ثدييك
فتأخذ رأسه في صدرها حتى يتنفس بالكاد، وتدعه يبكي حتى يبلل حمالة ثدييها، ثم يرضع قليلا، وينام في حضنها طفلا صغيرا.
ــ أهكذا في كل ليلة؟
ــ هكذا في كل ليلة.
ــ ما الذي كان يحدث؟
ــ لا أريد باستباق الأحداث أن أفسد عليك متعة القراءة. فإزاء إصراري على وجود الزوجين وجوداً موضوعياً مستقلا عن ذاتي المدرِكة، وإنكار الجميع ذلك، سنصعد معا أنا وأنت ذات صباح لطرق بابهما، ستجد حينها أني كنت محقا. ولدهشتك، والغموضِ الذي يلفهما، ستقوم بتحرياتك الخاصة، وستكتشف أموراً مثيرة، وأخرى مرعبة بكل ما في الكلمة من معنى. طبعا سأتظاهر بجهلي كل شيء، لأنك من ستخبرني نتائج تحرياتك تباعاً، كي أقصها عليك.
ــ ضعت.
ــ وأنا كذلك، اشرب شاي.