الخنازيرُ ترقصُ على ضفاف الفرات

الخنازيرُ ترقصُ على ضفاف الفرات
يوميات من حصار حيّ “الجورة” ديرالزور 2011
في ساحة العباسيين بدمشق، حوالي الساعة الثالثة صباحاً، وبعد انتظارٍ حافلٍ بالقلقِ والريبة من خطبٍ ما سوف يحدث، لا أدري لماذا ! هكذا، كانت كرياتُ دمي تصطدمُ بجدران أوردتي يميناً وشمالا، وتغلي، أطلقَ سائقُ الحافلة بوقاً عاليَ الصوت، إنذاراً للركّاب بأن الحافلة سوف تتحرّك.
نعم، إلى دير الزور.. المدينة التي أصبحت لاحقاً وجاراً للذئابِ ولبناتِ آوى، وساحةً للراياتِ السوداء، ومعرضاً أمميّاً للسكاكينِ الجائعة.
نعم، تلكم دير الزور؛ المدينة التي تتنافسُ عليها القوى الضاربة في العالم؛ مخزنُ النفطِ والغاز والقبور، والجغرافيا الدامية، الرابطة بين حضارةِ ما بين النهرين، وجشع صهاينة الكونغرس الأمريكي وأنيابِ “الولي الفقيه”.
نظرتُ شزراً بقلبي نحو الحافلة التي تبعدُ عني بضعة أمتار، وسرتُ ببطءٍ متوجّهاً إلى السائق الذي يجلس وراء مقودٍ كبير، كأن به يريد أن يفتحَ صنبورَ الكرة الأرضية ليتركَ دماء السوريين تتدفّق على الكواكب الأخرى.
مثل كهلٍ طأطأَ قلبه قبل رأسهِ، مخافةَ أن يجرفه الهلعُ من توجّسٍ ينبضُ في مفاصلهِ، قلتُ للسائق بعد أنْ طرقتُ زجاجَ نافذتهِ بثنيةِ السَبَّابة: ” هل سوف ننطلق؟”.
أجابَ: بــ” نعم، بعد قليل”… ورمى سيجارته نحو الأعلى، وكأنه يريد أن يحرقَ بيادرَ العتمةِ متقصداً.
صعدتُ إلى الحافلة، وأنا أتفرّسُ وجوهَ الركّاب الصلدة؛ أنا آخرُ راكب يصعد، هكذا، تعمدتُ ذلك.. وكأنني أريد الاطمئنان على المسافرين، مؤدّياً دورَ المُضيف، مساعد السائق… أنا، حينها لم أكن حيواناً يتمشى في ممرِّ الحافلة، ليبحثَ عن مقعدٍ فارغٍ يضع عليه جثته المؤقتة.
*نحنُ جثثٌ تتمطّى كي تثبتَ للعالم أنها تتنفس، تتسربلُ الأقمطةَ والألبسة المزركشة وتبتسمُ أيضاً ببلادة.
انطلقتِ الحافلة نحو المجهول، بعد أن أطلقَ السائقُ بوقاً آخرَ مودّعاً سائقي الحافلات الأخرى الذين ينتظرون حيواناتٍ حزينةً مثلي.
كنتُ أترقّب وصولنا إلى مدينة “تُدمر”، تلك التي ركلتِ الرومانَ والفُرسَ خارجَ ذاكرتها، وأصبحت حرّة، ذات ثقلٍ استثنائي في تاريخ الشرق.
*أتمنى أن نركلَ نحن السوريين كلَّ غازٍ وطاغية ونتعافى من النزيف والقدر الأحمق.
قبل أن نصلَ إلى قرية “الضْمير” التي تبعد عن دمشقَ قرابة “40 كلم”، صاحَ معاونُ السائق _ المُضيف _
طبعاً ليس أنا : ” الجميع يتجهّز، هنالك حاجزٌ عسكري على بُعدِ دقائق”.
كنتُ في المقاعد الأخيرة من الحافلة، بالتحديد، قبل آخر مقعدين، أمدّ عنقي من حينٍ لآخر، كي أرى المجهول القادم من خلال زجاج الحافلة الأمامي رغم المسافة البعيدة التي تفصل بين قلقي المتحفّز في عينيّ، وزجاج الحافلة.
الجميع .. الجميع .. كلهم ابتلعوا لعابهم وألسنتهم، دون أن يتهيّج الــ”قولون” لديهم ويطلق أمراً بالضُّرَاط!
لربما هم مثلي، ينتظرون مجهولاً كُتبَ ولمّا يزل يتكاثر كالنمل منذ عام 1971 إبان اغتصاب “حافظ الأسد” السلطة في سورية.
*لم أذكر أنّ “قولوني” أصدرَ أمراً ما.
كانت بنادقُ “الكلاشنكوف” هي التي تلوّح في الهواء، عوضاً عن الكفوفِ والسواعد أمام الحافلة، التي أبطأ من سرعتها السائقُ قبل أن نصلَ إلى الحاجز العسكري ( الأمني).
أذكرُ حتى هذه اللحظة شكلَ الرجل الذي صعدَ إلى الحافلة، كان يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً عسكرياً؛ يُمسكُ في كفّه “جهازاً لاسلكيّاً”، وتعتريه ملامحُ نزقة.
حاول سائقُ الحافلة ممازحته؛ قال له، مبتسماً وهو يشير بأصابعهِ نحو المقاعد الخلفية : ” الشباب آخر الحافلة غير متزوجين، أما مَن يرافق امرأة في المنتصف ، فهو مع عائلته”.
مثل شيطانٍ دميم، أخذ يحذرنا قبل أن نُبدي استعدادنا لسماعِ ما سوف يتقيّأ به : ” الشباب، فليترجلوا من الحافلة، والباقي دون همسٍ حتى أعود ..”
تمنيتُ وقتها أن أكون متزوجاً، كي أصيرَ أباً حيواناً،وأعقره من خصيتيهِ، لئلا يفكر بالتزاوج مع حيوانةٍ تنجبُ له غبيّاً مثله !
عند مؤخَرة الحافلة اصطففنا، نشبه بوقفتنا هذي وقفة “منتخبَ سورية الوطني لكرة القدم “،حينما خسر أمام البرازيل بنتيجة (6/0) ضمن تصفيات كأس العالم للشباب في “قطر” عام 1995…
(قطر !!) .. نعم قطر، التي لعبت دوراً قذراً في سورية بداعي “نصرة الثورة”؛ حتى المجانين يعرفون ذلك.
*النظام السوري يدّعي عداوة أنظمة دول الخليج، وهم من أولى (الدول) التي استشرست كي تجهضَ الثورة السورية مقابل ملايين الدولارات، أو تصدير “اللحى المُنمّقة” لضرب سلميّة الحراك.
وغير ذلك، لاحقاً، في تاريخ وجودي بدير الزور الشهر الثامن / رمضان / من عام 2011، استطعتُ التواصل مع صديق لي يعمل في الكويت، يعرف رجل أعمال (آدمي وينبح، اسمه عبد الحميد دشتي _ أبو طلال)، وهذا الأخير، يبجّل الطاغية بشار الأسد؛ قال لي الصديق ” إن السعودية ضخّت أربعة مليارات دولار لصالح البنك المركزي السوري، بحسب ما سمعه من الدشتي”.
مَن منّا لا يخاف ؟!
كنّا أكثر من عشرة.. نقفُ في انتظارِ الشيطانِ الدميم، كي نتذوّقَ القيءَ الوطني وكهرباءَ مزاجهِ!
أقعى .. وهو يدخّن سيجارته ويمسكُ بالقبضة ” الجهاز اللاسلكي” صارخاً بالجنود الذين يحيطون بنا: ” واحداً .. واحداً تلو الآخر، اجلبوهم إليَّ”.
*كنتُ أظنّ أنه سوف يرمي بسيجارتهِ كي يحرقَ بيادرَ الصمتِ والترقّبِ التي تنبتُ آنذاك في قلوبنا، لكنه لم يفعل !
لم أكن الأخير، قابلتهُ بعد أن صفعَ أحد الجنود الذين لم ينتبهوا لنباحهِ…
نعم، تقدّمتُ أنا طواعيةً، نيابةً عن الباقين، كي أواجهَ مجهولي مرةً أخرى.
المخطئون.. أوفياء لأنفسهم، فهم على يقين من أن الخطيئةَ تغلّف هذه الكرة الأرضية، تماماً، تحت طبقة الأوزون، لذلك، لا يأبهون لشيء، ولا يتردّدون طرْفةَ عين في التكبر والعصيان على السجيّة، تلك التي من شأنها العودة بهم إلى الصواب، أو على الأقل، الاعتراف بالذنب.
لم أكن مخطئاً حينما قررتُ التقدّم إلى ذلك الرجل الدميم، الذي اختارنا نحن الشباب أن نترجلَ عن الحافلة، وأقعى جانباً ينتظرُ أحداً منّا يأتي إليه، بعد أن صفع الجنديَ الشارد.
كان الطقسُ وقتها في قرية (الضمير) بارداً؛ الهواءُ يلسعُ في ذاك الهزيع، رغم أننا في شهر تموز، الشهر الذي تذبل الخُصى فيه وينضج التين، وتتثاءبُ القبورُ بقدومه لفرطِ قسوته ولشدّةِ حرارته!
*هي الفيافي، البادية التي لا تتوافقُ بمزاجها مع الفصول.
نعم… قابلته مُقطِّباً حاجبيّ ؛ فنهضَ، وهو يتفرّسني من أسفلَ قدميّ حتى غُرَّتي.
أمسكَ طرفَ قميصي بلؤمٍ، وشدّني بقوّةٍ دافعاً بي خلفه.. معربداً بصوتٍ عال: “وأنتم .. لمَ تقفون كالنسوةِ؟، من المؤكد أنّكم تكرهون سيادة الرئيس”..
حينما جرّني بتلك الطريقة وذاك التجاهل، ارتسمت على شفتيّ ابتسامةُ ثعلب وأنا أتعثرُ بظلي، وقلتُ أحدّثُ مُهجتيْ “نجح الأمر.. استطعتُ خداعَ هذا الأرعن”.
خاطبتُ حدسه.. جلعتُ من نفسي دريئةً للآخرين؛ أنا الذي تقدّم أوّلاً، لأجل ذلك، ارتابَ هذا المعتوه، وأحسّ أنّ أمراً ما جعل من الباقين يتقاعسون بالتقدّم نحوه، وقتها، تجاهلني، ظنّاً منه أنني لا أحملُ ضغينةً سوداء في كل كرةٍ من كريات دمي لــ(سيادة الخسيس بشار الأسد).
حاول سائقُ الحافلة والركاب أن يتدخّلوا لاستبانة الحدث؛ جاء رجلٌ كهل، وعجوزٌ تمشي حانيةً عمودها الفقري، كأنه قوس الزمن. إلا أنه نهرهما، وبدأ بالشتائم والسُباب: “لا أريد أيّاً كان أن يأتي إلى هنا، كل كلاب الحافلة تعود إلى أمكنتها، يا أولاد العاهرات، ريثما أنتهي من هؤلاء الخونة”.
البادية بسكونها، وأضواء الحافلة الخلفية الخافتة، ودهشة الحاضرين، وصوتُ صرصار الليل، وصمتنا والترقّب… كل هذا، كان مشهداً درامياً، قد حصل فعلاً، وكان من إخراج ذلك السافل: “الرجل الدميم.
الخونة ! … ها ؟
مَن الخونة؟! … بذلك، أنا خلفه، وهم أمامه.. فماذا أفعل ؟”
كانت كل تلك الإجراءات تفضي إلى أنّ مزاج هذا السافل غير متّزن ! وهو بحاجة للتسلية.
صاح بنا جميعاً بعد أن اصطففتُ إلى جانب (الخونة) : منبطحاً، منبطحاً .. منبطحاً … كرّرها، ولم ننفّذ هذا الأمر الأهوج !
يعتقد أننا من الجنود الذين تحت إِمْرَة أمّه.. هذا القميء.
مرّ بنا واحداً بعد الآخر، وهو ينثرُ رذاذَ لعابه القذر في ملامحنا المتحجّرة: “هل خدمتم في الجيش؟”.
ــ نعم، لا ، تأجيل دراسي، وحيد… هكذا أجابَ الجميع بعشوائية.
صفعني ابن القحبة!
*لا أدري، لمَ قَدَريْ مرتهنٌ بالصفعات؟!
منذ المرحلة الابتدائية أيام دراستي وأنا أتلقى الصفعات؛ المدرّسةُ لأنني مشاغب أو لم أحفظ جدولَ الضرب! عن طريق والديْ بالخطأ كلما كان يهمُّ لصفعِ أخي! وكثيراً ما كنتُ أجمعُ الصفعاتِ النادرةَ من خدّيّ، مثل طوابع البريد وأضعها داخل صندوق الضغينة، في انتظارِ اللحظةِ المناسبة للصقها بمكانها المناسب.
لقد زروعوا في داخلي حقلاً من الصفعات، وياليتها؛ تلك الكفوفُ التي صفعتني، تُصفّقُ لي.
أدارَ عنقي نحو الشرق بصفعتهِ تلكَ !
كأنه يقول لي : “انظر هناك.. دير الزور هناك”.
صرختُ في وجهه: “لماذا؟” .. وأنا أغلي من الغيظ والحنق، وأقبضُ بنزقِ وعزمٍ على غمدِ غضبي مخافةَ أن أشهرَ سيفَ تهوّري وأغرسه في صدره.
قال وكأنه يتندّر : “أنتَ أوّلُ المتطوّعين بالتقدّم إليّ، وأنتَ أوّل من أصفع”.
ابن القحبة.. مَحا ابتسامةَ الثعلب عن شفتيَّ، وأدركتُ أنه لا يُخدع !
وبدأ الرنينُ … صدى الصفعات أخذ يرنّ في الجانب الآخر من الكرة الأرضية! صفعةً إثرَ صفعة؛ وأنا أحصي طوابعَ البريد على خدودِ المساكين.
لماذا تلك العجوز حينما صعدنا إلى الحافلة منكسي الرؤوس ومحمري الخدود والقلوب، أطلقت زُغرودةً.. انتصبت لها كلُّ أذانِ الحيواناتِ في البادية السورية!
ضحكنا … ونحن في ولوج ممرِّ الحافلة، وهي تقول لنا بعينين دامعتين: “سلّمكم الله .. سلمكم الله.. قُطعتْ يمينه”.
وضعتُ رأسي على زجاج النافذة بعد أن جلستُ في مقعدي، وأخذتُ أحدّقُ نحو المساحات الدامسة، البعيدة، التي تتراءى أمامي على شكل فوانيسَ خافتة؛ إنها المدينة، بيوتها، نوافذها، أحلامها، كلها ترقص الآن ملوحة لي بضيائها الوَسْنَان، وهمسها الخفيض.
غفوتُ متكوّراً، كأنني في رحمِ المفاجأة.. لا أذكر كم غفوتُ.
بادرني أحدهم بلكزةٍ على كتفيْ استيقظتُ بسببها..
ــ “أعتذر.. ظننتكَ مستيقظاً”، قال لي شابٌ يجاورني في مقعدٍ على الجانب الآخر.
قلتُ له: “لا بأس.. ماذا تريد؟”
أجاب: “صرصارٌ كان يمشي على كتفكَ، ثم سقط في صدركَ..”
ــ “أيقظتَ قلبي من أجل صرصار!”.. أضفتُ له مستغرباً، وأكملتُ : “ألم ترَ كيف باتت وجنتاي ذابلتين جرّاء صفعة ذاك السافل؟”
قال: “هي صفعة واحدة، لمَ وجنتكَ الأخرى؟”
لم أبتسم ابتسامةَ ثعلب وأجبتُ ممتعضاً كي أنهي الحديث: “الوجنةُ الأخرى ذبلت حداداً على شقيقتها، ألم تسمع بالحدادِ أيها الثرثار.. دعني لأنام”.
لم أبحث عن الصرصار، فقط استنهضتُ سكوني، وهززتُ قميصي، ودهستُ وهماً بمقدمةِ حذائي شيئاً ما لم يسقط.
في صدري غلٌّ تاريخيٌ نحو كل القتلة في سورية، ولا أريد أن أنتزعه أو أرميه، حتى أرى “سيادة الخسيس” ونظامه وكل أجهزته الأمنية وميليشياته القاتلة يعبرون تحت أقدام الشعب السوري الحرّ نحو المحاكم والمشانق.
دعِّ الصرصارَ يتمشّى أنى شاء…
لربما هذه الحافلة منزله، ولدَ فيها، وكبر ضمنها، وله الحقّ كامل الحق أن يطردنا خارجها.
.
.
إذن، الآن إلى دير الزور.. وقد تبقّت أمامنا بضعٌ ساعات كي نصلَ إلى المجهول الأخطر.