مقامات

لخولة أطلالٌ… ضاعت على أرض مخيم

لم يكن لدينا تحف كثيرة في البيت ..

هل يعود ذلك لأننا كنا من الطبقة الوسطى ؟

الطبقة الوسطى ؟ !

إذن سأعترف كان لدينا مكتبة في البيت، و كأي مكتبة لم تورثنا شيئاً سوى التناقضات، تناقضات بين ما هو كائن و بين ما يجب أن يكون، و  أسئلة أخرى ..

لم يكن بيتنا كبيراً جداً و لم يكن بناؤه بالشيء السهل فقد تعرض لأربع عمليات هدم جزئي .. لماذا ؟

لأننا لم نكن نقدم المبلغ الصحيح للشخص الصحيح، و في المرة الخامسة اكتشفنا السر،  فنجونا و لكن السادسة كانت لدينا كما لدى الجميع .. قاضية.

يردد في أغنيته:

ما بعرفن …ما شايفن

لقد كنت أعرف الجميع هناك، و أنا اليوم غريب

لا أعرف ما الذي دفعني أن ألتقط صوراً للبيت في حلّته الأجمل ذات يوم

دعك من كل هذا و تعال أخبرك شيئاً 

( من الأول )

أمي تبكي  .. لماذا ؟

ارتكب أبي خطأً ذات يوم بأنه قرر أن يبني عائلة في هذا العالم و استفحل خطأه حين زاد عدد أفراد هذه العائلة.

 إن كان الحزن يجعل الأرض بما رحبت تضيق عليك ، فليس غريباً أنّ أسرة سعيدة من بضعة أفراد سيضيق عليهم بيت صغير و لأن الارتقاء نحو السماء أسهل من التمدد على الأرض أحياناً كان الحل الأمثل أن نبني فوق بيتنا بيتاً آخر ..

إننا ننمو نحو الأعلى .. نحن أشجار يا قوم  نحن نصد الريح

و كأي أسرة، على سطح منزلنا يوجد كل شيء ، معمل لإعادة التدوير

لا ترمي صفيحة الزيت الفارغة  فهي وعاء نمو النباتات الهامة، و علب السمنة الصغيرة تنمو بها النباتات الدرجة الثانية .. و لأننا نرجسيون فقد زرعنا النرجس في تنكة سمنة الحلوب  ..

و لأننا مثقفون فقد بنينا بمنهجية علمية ..كيف ؟

إبدأ بغرفة  .. فإن مرّت، أتبعها بباقي البيت

لسنا لصوصاً ولكننا عملنا كما اللصوص تحت جنح الظلام أتينا بكل شيء حتى الصبة كانت بالليل و عالعتمة

هل مرت الغرفة ؟

مرت الغرفة و يا للغرابة بعد أن فتحت لثلاث مرات متوالية فجوات في سقفها الصغير

ما ذنبنا إن كان جارنا قد بنى غرفته أيضاً ( جيراننا مثقفون أيضاً ) و لكن لسبب ما لم تهدم ورشة الهدم غرفته بل أتت إلينا لتهدم ما هدم من قبل و يثير السخرية أن يتكرر هذا ثلاثة مرات  ..

كل العالم علينا   ليش هيك عيشتنا ؟

أمي تضحك … لماذا ؟

لأننا بنينا بيتاً إضافياً .. و بنيناه كما الطيور في النهار  

كيف ؟ هل دفعنا القرابين المناسبة لبلدية اليرموك؟

لا .. فقد أشغلتهم اللات و العزى بنفسهم و اتضح أن بناء بيت بشكل مخالف ليس جريمة كبرى أمام تركيب أربعة حروف لبناء كلمة واحدة … حرية

أترتدي الكلمات أثواباً أم أن تلك الأيام كست تلك الكلمة أثواباً جميلة و كأنها آية نسمعها لأول مرة و كأننا لم نكن نرددها من قبل في المدرسة ، كأنها هي هي .. الحرية .

أن نكون فهذا فرض أن لا نكون هو الطلب  و المخيم هو البرهان  ..

لطالما تشاجرنا في الحارة و لطالما نسينا بعد ثوان ٍ سبب الشجار و لكن كان هناك حجة دامغة حين تُطرح فهذا يعني أن جهيزة قد قطعت قول كل خطيب ..

لا تلعب قدام بيتنا  .. في حال الهجوم

عم بلعب قدام بيتنا .. في حال الدفاع 

ترسيم الحدود يبدأ بالنقطة التي تختلف فيها الضمائر  و مع البيت دوماً لا يستخدم سوى نا .. بيتنا و حين تكبر قليلاً و تدرك أن حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء و تدرك أن الغربة قاتلة و أن القلب يباب، يُخلق الوطن من الضيق في مظاهرة  في ذكرى نصر أو هزيمة أو ذكرى شهيد  ..

يصبح البيت وطناً و الحي قارة و المخيم كوناً

وإذا أصبح المعلم نبياً فالمدرسة كعبة


لا .. فقد أشغلتهم اللات و العزى بنفسهم و اتضح أن بناء بيت بشكل مخالف ليس جريمة كبرى أمام تركيب أربعة حروف لبناء كلمة واحدة … حرية

كم كانت فرحتنا غامرة حين اكشفنا أن ما يبنى أمام حارتنا هو  مسجد

فجأة حصلنا على مسجد  .

 الأغبياء لقد مدوا لنا شبكة اتصال بالسماء قبل أن يمددوا لنا الهاتف ،و لا بأس بأن  نضمن ماء الكوثر قبل ماء الفيجة بسنوات ، مسجد سيد الشهداء هو مكان عبادتنا و لعبنا و دراستنا و مكان تكفيرنا عن إحساسنا بذنب الخطيئة ، و كم تمددنا به في نهارات الدفلى نهارات الحصار الطويلة ، هو بيتنا جميعاً  .. كيف لا

فهو بيت الله ..

سألت جدتي الستعينية ذات يوم، ماذا تشاهدين في أحلامك ؟

تلك العجوز البسيطة التي كانت و رفيقاتها من الجدات  غذاء المخيلة الوطنية للاجئين و أبنائهم و أبناء أبنائهم و حجر الزاوية في بناء الهوية،  قبل أن تصبح كرة القدم و فرقها تلعب ذات الدور

  • و الله يا ستي بحياتي ما حلمت حالي غير بالبلاد ..

بلاد العُرب أوطاني ؟

أين تقع صفد ؟ جنوب لوبية [1]

أين تقع حيفا ؟ تتقاطع مع المدارس ..

أين تقع فلسطين ؟ تمتد طويلاً لتحضننا مع اليرموك و يلتف معها  الثلاثون مقعداً لتتفرج على دير ياسين  و تصل  للأسفل … للعروبة



فكل حصار تقتله
هو لا محالة قاتلك ..

العروبة أسفل المخيم ؟

كما هي دائماً ..

ما هذه الجغرافيا الغريبة التي تجعل الشمال جنوباً ؟

وين رايح ؟ نازل عالشام  و كيف لشبه المنحرف هذا[2] أن يكون مستقيماً في أذهاننا إلى هذا الحد ؟

دائرة أولها آخرها .. أو أنها كرة؟

تتقاسم جميع الكائنات حنيناً ما ..

كم كان جميلاً أن تتراءى من البعيد تلك الكرة .. لماذا لم نسميها كرة السلة ؟ كرة القدم ؟ الكرة الأرضية ؟

لماذا هي البطيخة[3]؟  ظاهر يختلف عن الباطن ولا شك ، المبتدأ و نقطة تلاقي السواكن،

إذن فأين أين الخبر ؟

مرت على الجدران هناك فصائل و هزائم و انتصارات و أشباه انتصارات  .. مر عليها الجميع  ، الصادقون و الكاذبون و مر عليها جيل وعد الآخرة ..

مر عليها الشهداء ..

شهداء الكفاح المسلح و شهداء العصر  الفدائي الجميل ، شهداء الانتفاضة

و مررنا عليها جميعاً حين احتضنت صور أصدقائنا ..

أن ترى صديقاً لك مصوراً على الحائط ليس سهلاً و لكن الجميل أن الجدران ابتدأت بالشهداء و انتهت بالشهداء و ما بينهما من معارك الطواحين طُمس

اللهم اشهد ..

أما و قد استلمنا الجدران  بالشرف فقد  سلَّمناها بالشرف ، و كان في عرف الرجال

أن خبزهم على بعضهم دين .. اللهم لا دين علينا إلا دينهم  ، دم الرجال . و لا دين أغلب  و لا حمل أثقل .

إنني أجلس في الخيمة منذ شهر و نصف و أحس بالريح تعبث بكل شيء حولي

تتقلب الذكرى في نفسي و تثير كل شيء

أسأل نفسي لماذا أُبقينا حين اشتد القصف على المخيم ؟ هل هو تسميم متعمد للذاكرة و إفساد مقصود للإدراك ؟

أن اذهبوا أيها اللاجئون  و كل ما ستشتاقون إليه هو الدمار و لا تأخذوها قيلاً عن قال بل شاهدوا بأم العين، تلك الأم الثكلى التي نادت بأعلى الصوت ..

موتوا أينما شئتم فلن تجدوا جدراناً

ناموا أينما شئتم فلا سقف يُبنى فوق سقفكم العالي  ..

كلوا ما شئتم فلا جوع الحصار يُشبَع و لا طعامه يٌقنِع و لا حبلكم العلني يُقطع

أحبوا و هيموا فلا شغف يطغى على سأمكم و لا شوقكم مما يُعرف له لقاء فيسكن

كونوا أو لا تكونوا فقد تعمدتم بالنار ، و تمادى عليكم الوقت طويلاً كيما يكشف عنكم حجاب الحصار ،

فكل حصار تقتله

هو لا محالة قاتلك ..


اللوحة للفنان ديلاور عمر

[1] أسماء شوارع في مخيم اليرموك شارع صفد و العروبة وفلسطين وحيفا  والمدارس…

[2] يأخذ المخيم جغرافياً شكل شبه المنحرف

[3] نصب غريب موجود في مدخل مخيم اليرموك معروف بدوار البطيخة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − ستة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى