مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية

تعبنا … إلى الحدّ الذي لم نعد نشعرُ فيه بأي شيء، بالألم؟ بتاتاً… كل الأوجاع حُقنّا بها، وكأننا ابتلعنا حزن العالم.
بعد مرور سنوات من الحرب التي لاكت البشر والحجر، وتراكض الأيام مثل الجثث العارية في مضمار الحرية الحمراء أتذكر وأستحضر الأيام القاسية في حلب، تلك التي أخذتنا من نزوحٍ إلى آخر، ومن فقدٍ إلى فقد أشخاص أعزاء نعرفهم وتعرفنا عليهم.
لقد خسرنا كل شيءٍ، حتى الحنين إلى الأشياء الجميلة!
ذاك الحنين الذي خسرت أغلبه أنا أيضاً، أعادني لبداية دخول فصائل الجيش الحرّ إلى منطقة (صلاح الدين)؛ كانت الفرحة تغمرنا، وأكثر منها الأمل بالخلاص من هذا النظام الظالم.
في مساء السادس من رمضان من عام 2012 كان المصلّون داخل المسجد يؤدون صلاة التراويح، إذ بدأت القذائف تنهمر عليهم، وارتفع صوت الرجال، رغم أنها كانت بعيدة قليلاً، إلا أنها جمّدت الدماء في عروقنا، تخوّفنا من أي مداهمة للبيوت، أغلقنا جميع الأبواب، وكأننا نمنع الموت من الدخول، فنحن بكامل الإدراك أن النظام وشبيحته يتجهزون لحملة اعتقالات عشوائية، بحسب أناس سرّبوا هذه المعلومات؛ لقد مرّت هذه الليلة بخوف شديد، ولم يحصل شيء!
في اليوم التالي، السابع من رمضان، تم إخلاء منطقة صلاح الدين وأرض الصبّاغ (تجمّع سكاني) بسبب ازدياد القصف على المنطقة، وكنا آخر الذين خرجوا من سكان الحي… أخذنا بعضاً من الملابس والاحتياجات؛ في هذا اليوم بدأت قصة النزوح، ومعاناة الناس.
ذهبنا إلى منطقة حلب الجديدة، التي تقع غرباً، هي من المناطق التي لم يدخلها الجيش الحر، فبقيت خاضعة تحت سيطرة النظام، وكثيراً ما سمعنا قصصاً عن تشبيح بعض من سكان هذه المنطقة؛ إذ كانوا يقومون بإخبار قوات النظام عن أماكن اختباء المتظاهرين وأماكن خروجهم!
انقسم الناس في هذه الأثناء بين مؤيدٍ شرس ومعارض يتّقي شرّ الآخرين؛ كلٌ يدافع عن الجهة التي يراها على صواب!
ولكن، أكثر ما كان يستفزني بكلام المؤيدين قولهم إن الحاكم يحق له فعل ما يشاء حينما تكون هناك فوضى ضده؛ فهل نحن من ممتلكاته ليفعل بنا ما يشاء؟!
يقولون أيضاً: “أنتم من سمح بدخول المسلحين وأتيتم للاختباء في مناطقنا”
كثر الكلام، وتصاعدت المشاجرات، فأغلب العوائل انفصلت عن بعضها بسبب هذا. كنت أبتسمُ مكفهرةً كلما وردت تسمية مؤيد ومعارض وشبيح وثورجي؛ تُرى هل هم جزءٌ من هذه الكارثة في بلدي؟
هذه التسميات إلى مصير مجهول، مع مصير سورية، ومع هذا، لن ندرك حجم الخسارة التي سنحملها.
مدفعية الجوية كانت لا تتوقف عن قصف المناطق المحررة، بيتنا وحارتنا… هنا بدأ الخوف يتملكني، خفت أن أخسر بيتي وذكرياتي، بسبب هذا القصف العشوائي للمدفعيات؛ وقتها، لم تطل إقامتنا لدى أقاربنا عشرين يوماً، حتى كانت حلب قد قسمت إلى نصفين، الشرقية للجيش الحر، والغربية للنظام!
خرجنا من عند أقاربنا إلى منطقة الأشرفية، آخر ثلاثة أيام من رمضان… هذه المنطقة لم أكن قبل الثورة أسمع عنها، هي منطقة للأكراد، كانت أجواؤها بعيدة عن الثورة، والقلاقل تجول كتجوال الأوبئة.
حين سماع صوت الطفل، بعد هدوء الرصاص، جاء رجل بملابس عسكرية، ليسعفه وهو يحاول إخراجه من السيارة، غدرت بهم رصاصة قناص لترمي بالرجل فوق خالي، شهيد تلك اللحظة.
وصلنا عصر ذاك اليوم، كان المأوى عبارة عن معهد لتدريس القرآن؛ داخله مسجد اسمه الاستقامة، يقع في حارة فرعية قريبة من سوق الخضار، وخلفه حارة بني زيد التي كانت تحت سيطرة الجيش الحر.
المعهد لم يكن معداً بالكامل للسكن، إلا أنني كنت أشعر بالراحة النفسية والاستقرار بعد قضاء عشرين يوماً من الإرهاق لدى أقاربنا، وحالنا هذه، حال جميع الناس من منطقتنا.
ولكونها منطقة (آمنة)، افتتحت المدارس لاستقبال النازحين؛ الكثير من العوائل ذهبت إلى المدارس، لتقيم فيها، كل عائلة في (صف)،
والمناطق التي أخليت، كانت جميعها لأناس بسطاء خرجوا من منازلهم خوفاً من أن تطالهم أو تطال أبناءهم قذيفة ما، فلجأوا إلى المناطق الآمنة التي لم تصلها القذائف بعد.
كان الأفراد المنتسبون إلى تنظيم (بي كي كي) منطوين على أنفسهم، ولم يبادروا بالتدخل في الصراع وقتها، ولقد وقّعوا معاهدة مع النظام والحرّ، بألا يدخل أي من الطرفين على الأشرفية والشيخ مقصود؛ كانت هاتان المنطقتان تحت سيطرة الــ(بي كي كي)، ولا يريدون زعزعة أماكن سيطرتهم بالخلاف أو الاشتباك مع أي طرف.
عشنا قسطاً من الهدوء مدة زمنية لا بأس بها في هذه المنطقة، بعيدين عن أصوات القصف وما يحدث داخل المناطق الشرقية، نخرج من البيت دون خوف، أو حتى ريبة من أمرٍ ما.
ذات يوم خرجت صباحاً إلى السوق بداعي شراء الخبز والخضار، رافقتني أختي، وحينما انتهينا وعدنا إلى البيت، كان الجميع في حالة سكوت وصدمة، ليس لهما تفسير، وأمي تجهّز نفسها للخروج من البيت، سألتهم: “ما بكم؟” قالت: “خالك استشهد!”، لم أستوعب الموقف، كان قد أتى في عيد الفطر لزيارتنا، يرتدي ملابس جديدة، يحدثنا ويضحك، لم تطل زيارته كثيراً، فهو يريد أن يزور جميع أقاربه، وكان القصف المدفعي لا يتوقف، ولا أحداً يخرج من منزله إلا للضروريات، ومع هذا، لم يبالِ، وعند خروجه ودّعنا جميعاً، ربما وكأنه كان يعلم مصيره بعد أيام، لنسمع اليوم خبر استشهاده.
كان ذاهباً إلى (بستان الباشا) ليلبي صديقاً له، ابنه ذو الثلاثة عشر عاماً مريض بالسكري، ويحتاج إلى دواء، لم يستطع والده تأمينه بسبب شدة القصف على المنطقة، فطلب ذلك من خالي، إذ كان بإمكانه مساعدته، أخذ خالي معه ابنه ذا الخمس سنوات، واتجه بسيارته نحو صديقه الذي كان ينتظره على الشرفة، أعطى خالي إشارة بضوء السيارة ليلفت نظر صديقه، لكنه نبّه الجبهتين والقناص بهذا الضوء، فبدأ الرصاص والاشتباكات، وكأنه أعطى إشارة للموت، أصابته رصاصة قناص في رأسه، فوقع على مقود السيارة ملطخاً بالدماء، أمام طفله الذي كان يصرخ: “أبي لا تدع الدم يخرج من فمك.. أبي ابتلعه حتى لا تموت”، ويبكي بحرقة طفل يتيم اللحظة.
حين سماع صوت الطفل، بعد هدوء الرصاص، جاء رجل بملابس عسكرية، ليسعفه وهو يحاول إخراجه من السيارة، غدرت بهم رصاصة قناص لترمي بالرجل فوق خالي، شهيد تلك اللحظة.
كان الأفراد المنتسبون إلى تنظيم (بي كي كي) منطوين على أنفسهم، ولم يبادروا بالتدخل في الصراع وقتها، ولقد وقّعوا معاهدة مع النظام والحرّ، بألا يدخل أي من الطرفين على الأشرفية والشيخ مقصود؛ كانت هاتان المنطقتان تحت سيطرة الــ(بي كي كي)، ولا يريدون زعزعة أماكن سيطرتهم بالخلاف أو الاشتباك مع أي طرف.
كان صديقه ما يزال يراقب من الشرفة، ولم يستطع الحراك إلا عندما توقف الاشتباك نهائياً؛ أخذ الطفل وسحب الرجلين، محاولاً أخذهما إلى المشفى، فأصيبت قدمه برصاصة، لم يستطع إسعاف أحد، فأتى رجل وبدأ بنزع ساعته وملابسه وأخرج النقود من جيبه…!
بعد ثلاثة أيام من البحث في المشافي، وجده أخوه، برفقة ابنه الشاب ذي العشرين عاماً، كان بين مئات الجثث، التي وضعت في أكياس سوداء، داخل سيارة كبيرة (قلاب)، وبعد بحث مطوّل ومضنٍ بين الجثث، وجدوه… كانت ملامح وجهه مخيفة، فالجثث كانت متورمة بشدة! تعرّف إليه أخوه وابنه عن طريق شامة على قدمه، أخذوه ودفنوه، ولم يستطيعوا تغسيله بسبب انتفاخ جثته!
بدأت الأوضاع تسوء تدريجياً، لم يعد الماء متوفراً ولا الكهرباء، وحتى الخبز فقد من مدينة حلب بشكل كامل.
جرّاء هذه الأوضاع توفي جدي أيضاً، البالغ من العمر سبعيناً ونيفاً، كان وقع الخبر على أمي قاسياً، طلبوا منها إحضار الماء لتغسيله، بسبب أزمة انقطاع الماء التي تعمّ البلد، فمن الصعب تأمين الماء، فغسل بماء مثلّج وكفّن بقماشة بيضاء لم تستره كاملاً.
كانت أمي تروي هذه الحادثة وتبكي، وتقول: “حتى إيجاد القبر والدفن كان صعباً، فالمقابر لم تسلم من القصف، حتى الموت أصبح ضرباً من الجنون في هذه البلاد!”
وأنا أتذكر كل هذه الحوادث، والأيام التي مرت، كان يتبادر إلى ذهني سؤال بسيط:
“ماذا زرعنا حتى نحصد كل هذا الدمار؟
ماذا فعلنا لتكون هذه النتيجة؟!؛ أطفال تتيتم وعوائل تتشرد وأم تفقد ابنها شهيداً أو معتقلاً!”
بعد ثلاثة شهور ساءت أوضاع المنطقة… دخل الجيش الحر في نهاية شهر تشرين الثاني، بسبب سماح حزب الــ (بي كي كي) للجان الشعبية بالدخول، وقصف فرن (حي بني زيد)؛ هذه الأسباب التي كانت متداولة بين الناس.
بعد يوم من هذه الحادثة، دخل قائد كتيبة (شهداء بدر)، خالد الحياني، ورجاله سوق الخضار في الأشرفية، أوقع بسطات الخضار، أخذ يشتم يميناً وشمالاً ويرهب الناس، فسمّوه وقتها بالسفاح.
الشيء المضحك أن اللجان الشعبية كانت تخاف من فصائل المعارضة، فبمجرد دخول الحياني ورجاله راحوا يختبئون في المحلات ومداخل المباني.
أعلنت الثورة في الأشرفية بعد خطبة الجمعة، ألقاها الشيخ حمزة، كانت مليئة بعبارات جهادية، وختمها بالدعاء على هزيمة بشار وأتباعه، وإظهار الحق، فكانت آخر خطبة يخطبها، والتحق بالثوار بعدها على الجبهات، وبعد مدة سمعنا خبر استشهاده، مخلفاً وراءه خمسة أطفال وامرأة حاملاً.
في شهر كانون الأول من عام 2012 ساءت الأوضاع أكثر من ذي قبل، بدأت المنطقة تُستهدف بالصواريخ، القصف لا يتوقف، بدأ الأكراد بالنزوح؛ أكثرهم إلى (عفرين)، ونحن لا نعرف مكاناً آخر لنذهب إليه، فقررنا البقاء، ولكن لم يعد يحتمل هذا الوضع من شدة القصف، فخرجنا من هذه المنطقة بحثاً عن منطقة حالها أفضل، وحال سوريا بأكملها أصبح يشبه بعضه بعضاً!
في ذاك الوقت أصبحت أمنيتي أن أنام، فقط أناااااااام… بهدوء، بعيداً عن أصوات القصف طيلة الليل والنهار!
نحن لم نختر هذه الحرب، كنا على استعداد أن نسير في المظاهرات حتى يتحقق شيء من مطالب الشعب، كثير من الشباب ورجال المظاهرات رفضوا التعامل بالسلاح، وابتعدوا…