ذاكرة حدث

طنين الهدوء على حواجز الوطن

مستنداً بمرفقي إلى نافذة السرفيس (إحدى وسائط النقل في دمشق). في شهر تموز من عام ٢٠٠٦ تحت قيظ دمشق

في المقعد الأمامي، تاركاً شعري الطويل يطفو في الهواء، الذي بدوره يغوص في لحيتي الكثة، بعد أن حشر رجل نفسه بيني وبين السائق السبعيني (أبو عاصم)، الذي أجلس حفيده ذا السبع سنوات في حضنه كي يفسح مكاناً لخمس ليرات إضافية؛ أجرة نقل الراكب من دمشق إلى دمر البلد في ذلك الوقت.

نظرت إلى الرجل الذي قبع بيننا، إنه في الأربعين من العمر تقريباً، قلت في نفسي إني أعرف هذا الرجل لقد اجتمعنا مسبقاً، قبل أن يقاطع أفكاري سؤال الطفل الذي بجانبي:

“عمو أنت من سورية؟”

فأجبته متهكماً: “إي الحمد لله يا عمو”

مما أثار شهية الرجل الذي في الوسط للكلام بناءً على تهكمي، علق الرجل قائلاً: “أحلى بلد” .

 ثم زاد الطفل في السؤال: “عمو إنت زلمة ولا مرة”

وقبل أن أجيب مر السرفيس في حفرة مفاجئة مما دفع الناس للتذمر من طريقة القيادة، الرجل في الوسط علق بلهجة تهكمية خجولة  بغرض تهدئة الناس:

“احمدوا الله انكون من سورية على الاقل مزفتة وفيها زفت”،

صاح أبو عاصم مؤكداً “الله يرحم قبل خمسين سنة كان عندي باص هوب هوب والشارع هاد كان تراب الحمدلله الله يخليلنا هالبلد”…

صمت الجميع إلى أن باح الطفل بذات السؤال عما إذا كنت رجلاً أم امرأة، وذلك كله بسبب شعري الطويل، فأجبته أنا رجل يا بني، وضحك أبو عاصم كثيراً  عوضاً عن نهر حفيده وتأديبه. تأفف الرجل في الوسط من الحدث برمته، فسألته لأخفف عنه وأداري الإحراج الذي سببه لي الطفل: “تبدو غاضباً اليوم؟ أتمنى ألا يكون هناك مشكلة”، فرد مجيباً” أنا طبيب وأجبروني على أداء الخدمة العسكرية الإلزامية في هذه السن المتأخرة”. عندها استطعت الربط والتذكر .

 كان هذا الرجل أحد أهم وجوه المعارضة اليوم، وأنا أحترم آراءه التي كان ينشرها عبر مقالات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.


“احمدوا الله انكون من سورية على الاقل مزفتة وفيها زفت”،

اتذكر هذا الحدث الآن صيف ٢٠١٢ في ذات السرفيس، أبو عاصم ما زال حياً وفي مهنته القديمة، أجلس في المقعد الأمامي باتجاه دمر البلد، توقف أبو عاصم عند حاجز (معربا)، بعد أن طلب من الجميع تجهيز بطاقاتهم الشخصية، وخاطب العسكري المسؤول عن التفتيش: “هي كل الهويات جهزتلك ياهون سلفاً”.

 التقط العسكري ذو التسعة عشر عاماً الهويات وانزلق السؤال من شفتيه نحو أبي عاصم ببلادة مستفزة: “وانتْ شو اسمك يا ابني؟”، دون مراعاة لسن أبي عاصم الذي يكبره بخمسة عقود تقريباً.

 أجاب الرجل: “أبو عاصم” فما كان من العسكري إلا أن رمى الهويات في وجه أبي عاصم قائلاً: “عطيني هويتك يا بني آدم شو رفيقي بالدورة… ما تقلي أبو عاصم..  والله لو ما بقولوا ختيار لطرقتك كفين قدام هالعالم، وين ساكن ياكر يا حيوان؟” أجاب أبو عاصم أثناء بحثه عن هويته بعد أن اصفر وجهه وارتجفت يداه: “هون بدمر”، فأردف العسكري قائلاً: “قديش صرلك ساكن هون؟”

 فأجابه أبو عاصم بانكسار: “صرلي سبعين سنة”

خطف الهوية من يد الرجل بعنف، ثم قرأ بصوت عالي: (إسم إمك زهرة).

ليجيب أبو عاصم بلسان المكسور: “نعم هيك إسما سيدي”.

ليضيف العسكري ساخراً: “إمك زهرة هي اللي إلها ريحة بنشمها… أو اللي بتجي مع المقالي عالغدا).

فما كان مني بعد أن استشطت غضباً إلا أن علقت: “ممتاز بتعرف تقرا منيح، وصاحب نكتة كمان  أنت ما لازم تكون عالحاجز انت لازم تكون رئيس مفرزة”.

 فما كان من العسكري إلا أن التفت إلى جهتي وهوى بكعب بندقيته على كتفي وفتح الباب لإنزالي وكان صراخه يملأ المكان، لينتبه أحد زملائه ويقول: “شو عامل هالحيوان؟” . .


 التقط العسكري ذو التسعة عشر عاماً الهويات وانزلق السؤال من شفتيه نحو أبي عاصم ببلادة مستفزة: “وانتْ شو اسمك يا ابني؟”، دون مراعاة لسن أبي عاصم الذي يكبره بخمسة عقود تقريباً.

ليجتمع البقية فيما بعد ويساعدوه في ضربي دون فهم لما جرى أو حتى طرح السؤال عن الخطأ الذي ارتكبته، وبرد فعل دفاعي لا شعوري انطلقت قبضتي نحو فك أحد الجنود لترديه أرضاً، عندها سمعت أحدهم يتواصل عبر اللاسلكي ويكرر عبارة “عمليات .. عمليات.. عمليات”.

ازداد عدد العسكر في غضون دقائق قليلة، ليتم تثبيتي على الأرض وربط ذراعي خلف ظهري دون أن يتوقفوا عن ضربي مع أن حركتي قد شلت تماماً ولم أعد قادراً على التنفس.

تم اصطحابي إلى رئيس المفرزة بعد أن تم تطميش عينيّ؛ سرنا لمسافة خمس دقائق تقريباً، لأجد نفسي في مكان مغلق، يستجوبني أحدهم بصوت رخيم حاقد: “عم تحرض ضد الدولة يا حقير، قديش عم يدفعولك الأمريكان؟”. و ما إن حاولت الرد أو التحدث حتى توالت اللكمات و الصفعات على وجهي.

بعدها ساد الصمت في المكان، ذاك الصمت الذي يحمل الإنسان على التفكير بأقبح سيناريوهات حياته، أبشع المصائر التي يمكن أن يواجهها المرء في قبضة هؤلاء المجرمين .

أردّد في نفسي: “هل سيتم صعقي بالكهرباء؟ هل سيترك هؤلاء ندبة على وجهي أم عاهة مستديمة في جسدي؟، متى ينتهي هذا الكابوس!”.

ذاك الهدوء الذي ساد وقتها، يخدش سمعي حتى الآن، له طنين في الأذن يبعث على الجنون.

دقائق و يكسر الصمت ذاك الرجل صاحب الصوت الرخيم الحاقد، ليقول اكشفوا عن وجهه، دعوه يرى بأم عينه ماذا سيحصل له جراء ما فعله، كان الغبش في عيني يشوه الرؤية لأنهم شدوا الغطاء على عيني بطريقة مبالغ بها… لحظات و استعدت بصري لأرى أمامي ثوراً حقيقياً على هيئة إنسان.

استل من أمامه قلماً وكتب بخط عريض على ورقة (مستقبلي) ، وقال لي: “اقرأ “.  فقرأت، ثم ردد: “ارفع صوتك ولاه ).. لأصرخ بصوت عال: “مستقبلي”.

ثم تناول من أمامه ولاعة التبغ وقام بإحراق الورقة، ثم أردف قائلاً: “هذا ما سوف أفعله بمستقبلك”.

 أصبحت تهمتي جاهزة، وسجني أمر مفروغ منه.

أطلق سراحي بعد عامين ونيف من هذا الحدث؛

“إنها سورية الأسد… تديرها الكلاب”

الآن وبعد مرور أكثر من أحد عشر عاماً على ذلك الحدث .. أتساءل في نفسي”هل يمكن للمرء أن يفصل ذاكرته عن رأيه في الأمور؟” .

هل كان أبو عاصم يستحق أن أغضب لأجله أم أن الثورة في سوريا اليوم هي نتاج لصمتنا الطويل؟! .

لم تمثل شخصية السائق سوى حالة جمعية للإنسان البسيط المغلوب على أمره، والذي يتبنى مثلاً شعبياً شاع في سوريا ( يمشي الحيط الحيط و يقول يا رب الستر). أيضاً، ذاك الطبيب المعارض لم يعكس سوى حالة شريحة واسعة من الناس تعيش الاغتراب في بلدها، فالمسافة كبيرة بين مانفكر أو نحلم به ومابين مانحن عليه في الواقع… أما أولئك الناس من أصحاب البدلات العسكرية و ممجدي النظام الحاكم الذي يمنحهم التسلط بدل المسؤولية، تحقيرهم للبشر بدل خدمتهم و حمايتهم، فالحديث عنهم أمر ما زال يستدعي في أذني طنين الهدوء ذاته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × 3 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى